من شمال غزة المحاصر.. نسرين مطر تكتب لوطن: أمهات لأجل الماء

أخبار حياة –  بعد أسابيع قليلة على بداية الحرب قُطِع الإنترنت وقُطِعَت المياه بشكل كُلَّي، أمَّا الكهرباء فظلَّت ألواح الطاقة الشمسيّة مرابطة فوق أسطح المنازل تدُرُّ على أصحابها ما تستهلكهُ من أشعَّة الشمس التشرينيَّة، حتى أتَت بعد فترة طائرات “الكواد كابتر” دون مقَّدمات وقررت أن تُحيل الألواح إلى فتاتٍ وبقايا زجاجيَّة.

إستبدلنا حياة الكسل والحداثة والرفاهية في أدنى مستوياتهم بحياة البدائيَّة والجَزر وكدح الإنسان الأول.

فإذا أردنا الماء نتسلَّل كاللصوص من الشوارع الفرعيَّة حتى لا ترصُدنا الطائرات أثناء حظر التِجوال المفروض، رغبة في الوصول إلى نقطة خاصة بتعبِئة المياه للجميع، فالماء ليس وطناً كي لا يكون للجميع.

لكن يبدو أنَّ المياه تكاتفت مع باقي أعضاء وطننا لسحقِنا دون إكتراث، وأصبحنا نحصل على الماء بحالة كيميائية وفيزيائية لم تعهدها حتى القبائل التي لا تعرف معنى الدُنيا، لا تعرف دُنيانا “الحقيرة” وأحسدها على ذلك، كان الماء أصفراً مُعكراً، يصاحبه طعمً يشبه الصدأ.

هل تسلَّل الصدأ ليطولَ حتّى الماء؟

ألَم تكفِه أوصالنا وأرواحنا !

ماء لا يقبله الشجر، فالشجر يملك رفاهية الرفض، والقبول، حُر على عكسِنا ..

كانت أمّي كلّ مرّة نحتاج فيها لهذا السائل الغريب تسير مسافةً ثقيلة، أثقل من حزنها وتقف في طابورٍ يتخَلَّلُه المُتعبون من فرط الإنتظار حتى تعود بمياه تسُدُّ عطشنا ولا تسمح لنا بالذهاب للحصول على المياه، خوفاً علينا من رصاصة قد يُطلقها جندي أنهى سيجارة وهو داخل آلته العسكرية المُحصصَّنة المخفِيَّة، فتذهب هي وحدها حيناً، ويُرافقها أبي عُنوة حيناً آخر..

إستمر هذا الوضع قُرابة شهر أو يزيد، ختى تقدّمت الدبّابات أكثر في أوساط شهر كانون الأول/ديسمبر  2023، وتمركزت مدافعها على طول الشارع الرئيسي (شارع الجلاء)، فأصبح الذهاب للماء يُهدد حياتنا أكثر من الذهاب إلى الحدود ونقاط الإلتحام..

مرَّت 3 أيام منذ آخر مرّة حصلنا فيها على الماء، ورويداً رويداً بدأ يَشُح حتّى قضَينا على آخر قطرةٍ منه, أصبح العطش والرصاص يُحاصِرنا ولم نَتُق محضَ لحظة دون ماء، حتى أنفجرت أمّي في نفسها وفينا، قائلة : ” أنا رايحة أجيب مي والي يصير يصير..”، ولم تنتظر ردَّ فعلٍ منَّا، بل قامت بإرتداء ثوبها المُطرَّز كأنّها ذاهبة إلى حفلٍ لإحياء التراث..

في تلك اللحظات خاطبها شقيقي، قائلاً: “خليكي يا ماما مش ناقصنا توتر، انتي عطشانة؟”.
-قالت أمي: “لا”

-قال لها شقيقي: ” خلص اذا مش عطشانة ما تروحي، ما حدا بده مي، وإذا عطشانة أنا بروح أجيبلك”..

كانت أمّي تُكابر على نفسها، وشقيقي يُكابر بدلاً عنَّا. نُكابر على العطش.

لم تعقَّب أمّي على كلامه، بل أكملت المسير إلى الباب، وعبثاً حاولنا منعها، ولم تمتثل، حَمَلَت “غالون الماء” وذهبت..

ساعات قليلة من خروجها، ويدوي صوت إنفجار لا يبعد كثيراً عنَّا، فخمَّنا أنه صوت قذيفة دبابة، وبدأ القلق ينهشنا على أمّي، والسؤال الأكثر رعباً هو ” هل يُعقل أنها أُصيبت؟”.

مرَّت ثواني قاسية علينا ولم تظهَر أمّي.. أين ماما !

وبعد مُدَّة مُماثة ظهرت في قاع المنزل، وحيدة دون الماء أو “الغالون”، والعرق البارد كبرد كانون يتصبَّب من وجهها البرونزي النحيل..

وسألتها مباشرة: “ماما إنتِ منيحة؟”.

-قالت: “بخير.. بخير.. ضربوا قذيفة على الناس إلي عند المي.. الله سترني.. تركت “الغالون” بعد ما مليت نصه.. هربت زي المجنونة بطلت أشوف قُدامي..”.

ثم بدأت تسرد لنا وهي تّنشُج بصدمتها باقي التفاصيل التي لم أكتبها هنا، منذ ما خرجت من المنزل وحتّى عودتها سليمة بمعجزة الصدفة..

بعد ساعات تراجعت الدَّبابات لتدخل في الشوارع الفرعيَّة مُفسحة لنا المجال للسير خلال الشارع الرئيسيّ، دون أن تكون حرساً غثيثاً يُراقِب خطواتنا، ودون أن “نّتّشّقَّف” إذا ما فكَّرنا بالخروج..

عادت أمي إلى “الغالون” فوجدته قد فَرَّغ حمولته من الماء بسبب الشظايا التي نفذت إليه فأعطبته..

شظايا كادت تخترق جسد أمّي فاخترقت الماء. في هذه المدينة علمت أنَّ ثمننا طَلقةً لا تنتشي إلا بدمنا، لكن أيكون ثمن أمّهاتنا بِضع قطرات ماءٍ أصفر؟
حين عادت أمّي إلينا مُحمَّلة بالماء المسكوب “والغالون” المعطوب..

 بَكَيت عطشاً.. أم قهراً..!

لا أعلم ماذا بكيت، المهم أنَّي بكيت ما تيسَّر لي من البكاء ذلك اليوم، وكان دمعي بطعم الصدأ كما الماء، دمعٌ أصفرُ حارق، لا ينفَكُّ أن يلسع وجنتاي الجافَّتان، لقد بكيت عطشاً وقهراً سويَّة، هل يعقل أن ثمن أمّي رشفة ماءٍ صدِئ، وأنا لم أفطن لتلك الحقيقة إلا حين كادت توشك أن تقع!

هذه السطور القليلة المُختصرة جزء مبتور من مذكّراتي في الحرب التي لا زِلت أكتبها، وستظلّ تُكتَب إلى أن تشبع الحرب من دمائنا. أردت مشاركة تلك الجزئيَّة الصغيرة دون غيرها لأنَّها وبعد مرور قُرابة عامٍ على وقوعها لا يزال الحدث يُطاردني في يقظتي، قبل رُقادي، ولا زالَ دم أمّي الذي لم يسِل بعد يقتطع من مُخيَّلتي أوجاعاً  لن تُغادرني…

مقالات ذات صلة

شارك المقال:

الأكثر قراءة

محليات