المستقبل الوشيك في الإقليم.. ورشة في المخيلة السياسية

سامح المحاريق

تجيب وقائع الاشتباكات في كورسك على الجبهة الروسية–الأوكرانية عن جزء من ألغاز الأسابيع الأخيرة في سوريا، فالقوات الكورية الشمالية تتولى المهام القتالية على هذه الجبهة، بما يعني حاجة روسيا الفعلية إلى مزيد من الحلفاء، أو بوابة خروج مشرفة من حربها على أوكرانيا، ومن المتوقع، أن يأتي دونالد ترامب بصفقة كبرى مع روسيا.

الحرب على الجبهة الأوكرانية أضعفت قدرة روسيا على استكمال دعمها لنظام الرئيس الأسد، وبعد الصدمة الروسية السابقة بخصوص سلوك المرتزقة التابعين لها في مجموعة فاجنر، الأمر الذي سيعني انكفاءً على جبهة أوكرانيا، وهو ما سيترك إيران من غير غطاء، خاصةً أن الصين لا يمكن أن تندفع تجاه إيران وهي تتأهب لدراسة أوضاعها في حرب اقتصادية مقبلة، وفي فضاء جغرافي مزدحم بنقاط متقدمة لممارسة ضغوطات أمريكية استراتيجية تجاهها.

ما الذي يعنيه ذلك، الأمر يبدو وكأن قطارًا غادر محطته في دمشق، وسيصل إلى وجهته قريبًا خلال الأسابيع المقبلة، وبعدها سيكون على العالم أن يتقبل شكلًا جديدًا للمنطقة، وهو الشكل الذي سينهي بعضًا من المشكلات القائمة، وسيعمل على إنتاج مشكلات جديدة، ربما تتوارى قليلًا تحت رغبة في الخروج من كابوس متواصل لأكثر من عشر سنوات ظهرت فيه هشاشة منظومة الدولة في أكثر من دولة عربية، وأدخلت المنطقة في فوضى، ولكن البدائل المقبلة، لا يبدو وكأنها ستبدو الإجابة عن حاجات المنطقة الفعلية، لأن جميعها أو معظمها، مرتبط بمشروع عابر للم?طقة، وهي ليست سوى جزء منه، صحيح أنه محوري إلى حد ما، ولكنه ليس المشروع ككل، ولذلك سيتم العمل على التعسف مع كثير من المعطيات لتمرير المشروع، ومن هذه المعطيات المجتمعات العربية والكتل السكانية في المنطقة.

في إدراج ذكي على موقع الفيسبوك، يكتب الدكتور عمر الرداد أنه لولا سايكس- بيكو لكان للعرب 88 دولة، و25 إقليمًا، ولدى التأمل في مبدأ تقاسم النفوذ الذي أرسته الاتفاقية التي لم تنفذ بالكامل وقتها، نجد أن النظام العالمي كان حريصًا في مرحلة ما على الإبقاء على محصلة التقاسم الاستراتيجي، ولكن العالم تغير بصورة جوهرية قبل قرابة الأربعين عامًا، وأصبح من الضروري تفهم أن أحدًا غير معني ببقاء الواقع على حالته، وأن عالمًا ثنائي القطب يختلف عن عالم الهيمنة الأمريكية، ويختلف عن عالم متعدد الأقطاب، وفي هذه النسخة الأخيرة، س?كون على الأمريكيين وغيرهم مع بداية الصراع البحث عن مناطق نفوذ مباشرة وغير مباشرة، فالأمريكيون لم يعودوا ينظرون بنفس شهية القطب الواحد الذي يعتبر التحلق حولهم تحصيل حاصل، ولكن عليهم أن يشمروا عن ذراعهم، ويبدأوا في تحديد حصص واضحة لهم ولبعض الدول التي يصعب تجاوزها ولها دورها في الصراع الأوسع على المستوى العالمي.

ما يحدث لم يكن حتميًا، ولكن تهالك الدولة وتواضعها داخل المنظومة الأمنية أدى إلى التحول إلى كيانات سلبية، أخذت مع الوقت تتضاءل في قيمتها الذاتية والاستراتيجية، فهل يمكن مثلًا، قياس تأثير بلد مثل مصر بين الخمسينيات والنصف الأول من الستينيات في القرن الماضي، والتأثير الحالي، وكيف يمكن تفسير تحولها من دولة واعدة لدخول نادي الصناعات الثقيلة وصناعة التسليح في ذلك الوقت، إلى بلد تغرق في الأزمات الاقتصادية والتعويم المتتالي لعملتها بما يؤثر على حياة القطاعات الأوسع من مواطنيها، والأمر ينسحب على دول أخرى، فالعراق ا?تي كانت تناصب وتناطح دولًا كبرى، خطابيًا على الأقل، تعاني للحصول على توافقات تمكنها من اتخاذ مواقف تجاه قضايا بسيطة أو ثانوية على مستوى الإقليم.

لا توجد ضمانات أو حتى تصورات متكاملة لما ستؤول له الظروف في المنطقة، وأمام هذه الوقائع على الدولة الأردنية أن تبقى متأهبة ويقظة وربما عليها أن تؤسس لخيال سياسي جديد ومختلف يمكن أن يتحمل اتساعًا لتعبير دول شقيقة، وتضييقًا لوصف دول صديقة، أو أي شيء آخر، وربما تحدث الخلخلة القوية والأزمات المرحلة، وربما مجرد مصادفات أو ظروف استثنائية، مسارات مختلفة للأحداث، فالتاريخ يرتكن في تقدمه على ما لا يمكن التنبؤ به بصورة تفوق القابل للتنبؤ والاحتساب، وإذا كان علينا أن نطلق تسمية لهذه المرحلة، فهي مرحلة كل ما هو خارج حد?د التنبؤ القائم على الخبرة التاريخية، وكل ما هو خيالي وفقًا لنفس الخبرة.

الأردن ليس الدولة العظمى التي يمكن أن تؤثر في الأحداث، ولكنها ليست ضحية السيولة التي حدثت في دول الجوار، ويجب إلى حد بعيد، أن يركز الخطاب على الثوابت وعلى نقاط القوة والارتكاز الرئيسية، على ألا يمثل ذلك حائلًا دون وجود الخطة (ب)، والاعتراف ضمنيًا بوجودها وبتكلفتها، وكذلك، الوقوف متأخرين خطوةً عن المحيط للتأمل والتفكير، ولكن ليس خطوتين أبدًا، لأن ذلك يعني تفويت بعض الفرص، أو البقاء في مدى مخاطر غير ضرورية.

لم تعد المسألة إقليمية على أية حال، ولم تعد قوى كثيرة مهتمة بتفاصيل الإقليم بقدر تطلعها لدوره في المستقبل، ولذلك، فكل الاحتمالات واردة، والفرص والمخاطر تتراوح بين حسابات قديمة وأخرى جديدة، وما يمكن التعويل عليه لا يقع في خانة التفاصيل أو الخيارات المتاحة والمحتملة، ولكنه في صميم الخبرة التاريخية للأردن التي تمكنت من استيعاب التحولات على مدى قرن كامل من الزمن، وإعادة انتاجها بصورة ايجابية مع الوقت.

مقالات ذات صلة

شارك المقال:

الأكثر قراءة

محليات