أخبار حياة – سيكون من قمة الحماقة أن تفترض كندا والصين والمكسيك أن تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب برفع التعريفات الجمركية قد ولى زمنها، وقد نجحت حكومات هذه الدول في التعامل حالياً مع هذا التهديد.
حيث لجأت كل من الرئيسة المكسيكية كلاوديا شينباوم ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو إلى أسلوب دبلوماسي ذكي، عرف باسم «مناورة فول الصويا».
ويعود أصل هذا المصطلح إلى عام 2018، عندما نجح رئيس المفوضية الأوروبية آنذاك، جان كلود يونكر، في تفادي فرض تعريفات على السيارات الأوروبية، بعدما قدم وعداً لترامب بزيادة واردات الاتحاد الأوروبي من فول الصويا الأمريكي – وهو إجراء كان قيد التنفيذ بالفعل دون الحاجة إلى مثل ذلك الوعد.
وأعلنت المكسيك وكندا عن إجراءات لمكافحة تهريب الفنتانيل عبر حدودهما مع الولايات المتحدة، وذلك من خلال نشر قوات وموظفين كانوا في الواقع موجودين بالفعل على الحدود.
ورغم أن تهريب الفنتانيل محدود جداً في الحالة الكندية، إلا أن الإعلان يأتي كجزء من جهود البلدين لتهدئة المخاوف الأمريكية. من جانبها، اتخذت الصين سلسلة من الإجراءات تضمنت زيادات محدودة في تعريفات الطاقة.
وتشديداً إضافياً على تصدير المعادن الاستراتيجية (رغم أن مثل هذه القيود لم تثبت فعاليتها في السابق)، كما أطلقت تحقيقاً غير محدد الأهداف حول شركة غوغل.
لكن ترامب سيعود حتماً بمطالب جديدة، موسعاً دائرة أهدافه لتشمل الاتحاد الأوروبي والدول متوسطة الدخل، لا سيما أنه يحمل عداءً خاصاً لفيتنام، التي يعتبرها مجرد محطة لسلاسل التوريد الصينية ومنصة للإنتاج الخارجي للشركات الصينية.
وفي ظل هذه التطورات، سيتعين على المصدرين المهددين بالاستبعاد من السوق الأمريكي البحث عن أسواق بديلة.
لقد سبقت الإشارة إلى أن المخاوف من تأثير التعريفات الأمريكية على الصين قد تكون مبالغاً فيها، خصوصاً فيما يتعلق بتحويل الصادرات الصينية إلى دول أخرى أو ما يسمى بظاهرة «صدمة الصين 2.0»، فقد أظهرت تجربة فترة ترامب الرئاسية الأولى أن الاقتصادات الناشئة تمكنت من الاستحواذ على الحصة السوقية التي فقدتها الصين في السوق الأمريكي.
لكن الخطر الحقيقي يكمن في محاولة الولايات المتحدة تقليص وارداتها بشكل عام، وهو ما سيكون له تأثير مدمر على المصدرين الأجانب وعلى الاقتصاد الأمريكي نفسه، وقد تجلى هذا التوجه في قرار إلغاء إعفاء الحد الأدنى للطرود التي تقل قيمتها عن 800 دولار.
وهو ما سيوجه ضربة قوية لشركات التجارة الإلكترونية الصينية مثل «تيمو» و«شين». والأخطر من ذلك أن ترامب يدرس توسيع نطاق هذه الإجراءات ليشمل دولاً أخرى من خلال فرض تعريفات جديدة وإلغاء إعفاءات مماثلة.
لقد باتت التجارة بين الاقتصادات متوسطة الدخل ذات أهمية متزايدة في المشهد الاقتصادي العالمي. وفي هذا السياق، توقعت شركة الاستشارات «بي سي جي» أن تشهد تجارة السلع بين الصين والاقتصادات الناشئة الأخرى نمواً سنوياً قوياً يقارب 6 % بالقيمة الحقيقية خلال الفترة من 2023 إلى 2033. وفي المقابل، ستكون معدلات نمو التجارة بين الدول مرتفعة الدخل والصين ضئيلة للغاية.
لكن هذا لا يعني بالضرورة إقصاء الاقتصادات المتقدمة من المشهد التجاري، إذ يعود جزء من هذا النمو إلى إضافة مراحل جديدة إلى شبكات القيمة العالمية التي ترفد السوق الأمريكية بالمنتجات. ومن المتوقع أن تنمو التجارة بين الدول متوسطة الدخل – باستثناء الصين – بنسبة 3.8 %، وبين هذه الدول والدول الغنية بنسبة 3.7 %.
ومن المؤكد أن العالم قادر على التكيف مع المتغيرات الاقتصادية وتعديل نماذج النمو، لكن من الصعب إيجاد بديل سريع للمستهلك الأمريكي المعروف بقوته الشرائية الهائلة.
فالبيانات الحالية تظهر أنه مع تعافي التجارة العالمية من الصدمة الأولية التي سببتها الحرب في أوكرانيا، شهدت الواردات الأمريكية نمواً يفوق بكثير المعدل العالمي، في حين تراجع نمو الواردات الصينية.
ويشرح ديفيد لوبين، الخبير في مركز الدراسات الاستراتيجية «تشاتام هاوس» في لندن، أن المصدرين العالميين يجدون أنفسهم اليوم عالقين في صراع بين قوتين اقتصاديتين تتبنيان سياسات تجارية حمائية، حيث تسعى كل من الصين والولايات المتحدة إلى زيادة صادراتها وتقليص وارداتها في الوقت نفسه.
ووسط الأزمة الاقتصادية في الصين، خصوصاً مع ضعف الطلب المحلي بسبب انهيار فقاعة العقارات، فقد عادت بكين وحكومات المقاطعات إلى نموذجها القائم على التصدير. وارتفعت الصادرات الصينية 13 % في الربع الثالث من العام الماضي، متجاوزة بكثير نمو الواردات العالمية البالغ 1.5 %.
ويصف ديفيد لوبين هذه السياسة بـ«الافتراسية»، إذ تهدف للاستحواذ على حصص سوقية من المنافسين. كما أن خفض الواردات يعكس هدفاً جيوسياسياً واضحاً: تقليل اعتماد الصين على العالم، وزيادة اعتماد العالم عليها.
وقد شهدت الاقتصادات النامية خلال العامين الماضيين موجة من الرسوم الجمركية الطارئة، بما في ذلك تدابير مكافحة الإغراق، لحماية شركاتها من المنافسة الصينية.
وحتى الآن، اقتصرت هذه الإجراءات على المدخلات الصناعية مثل الصلب – وهو قطاع يحظى باهتمام سياسي كبير لكنه لا يمثل جزءاً ضخماً من القيمة المضافة للتجارة العالمية. ومع ذلك، إذا انخفض الطلب الأمريكي بشكل حاد، فمن المرجح أن تزداد الضغوط لتوسيع نطاق هذه القيود.
وفيما يتعلق بمصادر الطلب البديلة، فقد شهدت الاقتصادات الناشئة، لا سيما في آسيا، ارتفاعاً في مستويات الاستهلاك، لكن المشكلة تكمن في أن معظم دول شرق آسيا مثل ماليزيا وسنغافورة وتايلاند والفلبين.
إضافة إلى كوريا الجنوبية واليابان، هي دول مصدرة بالأساس وتحقق فوائض مستمرة في حساباتها الجارية منذ الأزمة المالية الآسيوية في 1997 – 1998.
أما الاتحاد الأوروبي، الذي يواجه تحديات في تحفيز النمو في ظل استمرار هوس ألمانيا بالتصدير، فمن غير المتوقع أن يتمكن من تعويض تراجع الاستهلاك العالمي. قد تواجه الدول المعتمدة على التصدير إلى الولايات المتحدة، خصوصاً كندا والمكسيك، تداعيات سلبية كبيرة.
فرغم سعي ترامب لتقليص العجز التجاري، إلا أن سياساته ستؤدي لعكس ذلك، حيث سيحفز خفض الضرائب الطلب الاستهلاكي، مما يزيد الواردات. في المقابل، ستضعف التعريفات الجمركية تنافسية الصادرات الأمريكية بسبب ارتفاع الدولار، وهو تأثير شائع عند فرض ضرائب على الواردات.
وفي حال واصل ترامب فرض تعريفات جمركية شاملة في محاولة للتوقف عن لعب الولايات المتحدة دور المستهلك العالمي الأخير، بينما يطبق في الوقت نفسه سياسات تكرس هذا الدور، فحينها سيضطر المصدرون للبحث في جميع أنحاء العالم عن طلب محدود بالأساس.
وكما أشرت سابقاً، فإن التهديد الحقيقي للاقتصاد العالمي لا يكمن في مجرد إعادة هيكلة سلاسل التوريد، بل في احتمال أن يقرر أكبر وأهم سوق للصادرات العالمية كبح نموه الاقتصادي لخفض عجزه التجاري، في وقت لا يوجد فيه طلب كافٍ في الأسواق الأخرى لتعويض هذا التراجع.