سامح المحاريق
حالة من الإجماع الوطني على المستوى الأردني واجهت مقترح الرئيس الأمريكي بتهجير أهالي قطاع غزة، وحظي الأردن بتأييد عربي وعالمي في تحركاته لإجهاض المقترح الأمريكي المتعلق بسكان القطاع سواء كان تهجيرهم مؤقتًا أو دائمًا، ولكن التهجير لم يكن موضوعًا جديدًا أو طارئًا على الأجندة الأردنية، حيث تتابعت التحذيرات تجاه الاجراءات الإسرائيلية التي أسست لاستراتيجية التهجير في أراضي الضفة الغربية من خلال مواصلة قضم الأراضي لبناء التجمعات الاستيطانية، وإغلاق سبل العيش أمام الفلسطينيين بتوظيف الأدوات الاقتصادية التي عمقت أز?ات الفقر والبطالة، والبلطجة على موارد السلطة المالية، الأمر الذي أدى إلى متاخمتها لحدود الفشل في العديد من الشؤون الحيوية، بجانب الإجراءات الأمنية التي أدت إلى تضخم في أعداد الأسرى.
بقي الأردن يحاول الاشتباك مع هذه القضايا، ولكن الاستجابة لم تكن على المستوى المأمول، وخاصة فيما يتعلق بترتيبات السلطة الوطنية التي بقيت تعتقد أن الوقت أمامها مفتوح، وأنه طالما رحلت ملفات المرحلة النهائية، مثل القدس واللاجئين، فإن استمرار المعادلة القائمة يشكل ضمانة لاستمرارها خارج تجديد شرعيتها المؤجلة، والذي كان يمكن أن يشكل مدخلًا للمصالحة والتي لو حدثت لربما تغيرت الكثير من الأمور ولم تتفاعل الأحداث بالصورة القائمة.
في بعض الأحيان، كان الأردن يتحرك منفردًا، مثل البحث في تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، والكثير من الزيارات الملكية لأوروبا أدرجت هذه القضية لتجنب أن تمضي الأوضاع للأسوأ فيما يتعلق بمئات آلاف اللاجئين، وكثير منهم يقطنون في الضفة الغربية ومخيماتها.
التهجير لم يظهر أمام الأردن بصورة مفاجئة، والمستجد هو الوصول إلى هذه اللحظة بهذه الصورة وضمن هذه التفاصيل حادة الزوايا، فالحديث هو حول تهجير واسع النطاق يتخطى القرارات الفردية للفلسطينيين التي تدفعهم للتقدم لمعاملات الهجرة، أو تجبر المقيمين في الخارج ممن يمكنهم العودة إلى الأراضي الفلسطنية على تأجيل القرار أو جدولة خيارات بديلة مثل الاستقرار في دول أخرى، وهو الأمر الذي لم يكن ليشكل واقعًا قانونيًا يمكن البناء عليه لمصلحة اسرائيل، بقدر ما يخفف الضغط الديمغرافي على اسرائيل.
تتطلع إسرائيل إلى التهجير الواسع، طوعيًا أو قسريًا بوصفه طموحًا عامًا يجعلها تنفرد بالأرض الفلسطينية وتتوسع على حساب الفلسطينيين، وتتخلص منهم بوصفهم تهديدًا وجوديًا للكيان المحتل، ولكن إجهاض هذه الموجة أو المحاولة، لا يعني أن التهجير سيغادر الأولويات الإسرائيلية، وأنه لن يعود ليتخذ صورًا أخرى مستقبلًا، فالأصل لمواجهة التهجير هو قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة وتستطيع أن توفر لمواطنيها مجتمعًا آمنًا ومستقرًا حيث يمكنهم أن يعيشوا حياةً طبيعيةً، وهذا المسعى الذي عملت الأردن على تكراره في جميع المحافل والمناسب?ت، في الوقت الذي كان يتراجع عن أولويات الكثير من الدول التي وجدت في صفقة القرن فرصة مناسبة لإعادة تأهيل الفلسطينيين في مشروع ذو أبعاد اقتصادية من غير أن يمنحهم ذلك الكيان الوطني المستقل المناسب، وبحيث يبقون تحت طائلة الشروط الإسرائيلية وغب الطلب للمشاركة في مشروعات تعود بالفائدة على اسرائيل ويمكن وقتها أن يحظى الفلسطينيون بالفتات، بعد أن يتحولوا إلى مجرد سكان واحتياطي للعمالة غير الماهرة التي تتيح للإسرائيليين أن يعيشوا حياتهم بين الأمم المتقدمة، ويسهر العرب المتخلفون، والأقل في المكانة، على خدمة هذا المشر?ع، وحمايته.
أي معادلة أخرى تعتبر مزعجة لإسرائيل، والإبقاء على احتمالاتها قائمة تشكل ضغطًا على دولة الاحتلال وعقيدتها، ولذلك تمسكت الأردن بالسلطة الوطنية وحاولت تشجيع الدول العربية والحلفاء الرئيسيين حول العالم لدعم السلطة ووجودها بوصفها النواة التي يجب أن تبقى، لأن خروجها من المشهد، يجعل اسرائيل تحوز أرضًا عملت طويلًا على تحويلها من أرض محتلة إلى أرض متنازع عليها، وفي حالة النزاع، فإن تغيب الطرف الآخر، يعني حسم مصير الأرض لإسرائيل، وبالتالي سيلحق الفلسطينيون بالسلطة التي يفترض أنها تمثلهم، أو سيقبلون بأي تسوية ستقدمها?اسرائيل في ذلك الوقت على أساس أنها منحة إنسانية وليست من الحقوق الثابتة والأصيلة للشعب الفلسطيني.
الخلاصة، إن التهجير كان قائمًا على الدوام، وسيظل حتى لو أجهض مقترح الرئيس ترامب، وأنه لا يعني أن الأردنيين أو غيرهم من الشعوب العربية يضيقون بالفلسطينيين، فالتهجير مرفوض ولو إلى مدغشقر أو غابات الأمازون أو إلى استراليا أو كندا، فالفلسطينيون لا يفترض أن يهجروا من الأساس، والأردن لا يمكن أن يصبح شريكًا في جريمة التهجير من خلال قبوله بالضغوطات التي تزعم أنه يتم لمصلحة الفلسطينيين، وأنه مؤقت أو غير ذلك من العناوين الاستهلاكية لتمريره.
أما كيف يمكن مواجهة التهجير، وكيف يمكن ترويض الرغبة الإسرائيلية في التوسع، وهي رغبة غير منتهية لأن الإسرائيليين في الأساس يتحركون في ثقافتهم على مبدأ الوكالة، وأن نفس الذرائع التي وضعت من أجل احتلال فلسطين يمكن أن تمتد من النيل إلى الفرات، وما وراء ذلك؟ فالأمر بكل تأكيد يتطلب أن يتم دعم الفلسطينيين داخل أراضيهم والتحدث معهم صراحةً حول استراتيجيات للحوكمة والاستثمار الصحيح الذي يعود على الفلسطينيين لغايات تثبيتهم في أراضيهم ولا تستأثر به أي فئة منهم، وكذلك تعزيز الدول العربية التي تشكل خط المواجهة الأول وال?باشر مع الطموحات الإسرائيلية، ولعل ما يحدث من حوارات ومواقف حول المقترح الأمريكي يمكن أن يصبح مدخلًا لتجمع عربي يقوم على المصارحة والشفافية تجاه تحقيق هذه الغاية لاستعادة مفهوم دول الطوق، والبقاء في موقع أكثر ايجابية وعدالة وإنتاجية في أي تسوية مستقبلية، بدلًا من القبول بزعامة مجانية وغير مستحقة لإسرائيل بناء على الرغبات الأمريكية التي تحملها هذه الادارة في تصوراتها وطروحاتها.