د. رامي شاهين
في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه إدارة المدن، خاصة في المناطق التي تعاني من فجوة ثقة بين الحكومات والمواطنين والمستثمرين، تبرز الحاجة إلى نموذج إداري مبتكر يقطع مع الأساليب التقليدية المليئة بالثغرات. إن إنشاء شركة مساهمة غير مدرجة لإدارة المدينة، معتمداً على تقنيات حديثة مثل التوكنيزشن (Tokenization) والبلوك تشين (Blockchain)، ليس خياراً تكنولوجياً فحسب، بل ضرورة لضمان الشفافية وحماية الحقوق ومحاربة الفساد.
لماذا النموذج التقليدي لم يعد مجدياً؟
تعتمد الإدارة التقليدية للمدن على هياكل مركزية غالباً ما تكون بطيئة ومعرّضة للتدخلات البشرية والفساد. هذه المركزيّة تفتح الباب أمام “الواسطات” وعدم المساواة في توزيع الفرص، مما يُضعف ثقة المواطن والمستثمر على حد سواء. في الأردن، كما في العديد من الدول، تُعدُّ الثقة بين مكونات المجتمع عاملاً حاسماً لنجاح أي مشروع تنموي، وهو ما يفسر الحاجة الملحّة إلى تغيير النهج.
التوكنيزشن: مفتاح تملك آمن وشفاف
تقنية التوكنيزشن تسمح بتحويل الأصول المادية (مثل الأراضي، البنية التحتية، أو حتى الخدمات العامة) إلى أصول رقمية قابلة للتداول عبر رموز (Tokens) مدعومة بتقنية البلوك تشين. بذلك، يصبح كل مساهم في الشركة مالكاً لجزء من أصول المدينة بشكل واضح لا لبس فيه، مع سجلٍّ رقمي دائم وغير قابل للتلاعب. هذه التقنية تضمن:
- اللامركزية: لا تتحكم جهة واحدة في الأصول، مما يحدّ من الفساد.
- الشفافية: كل معاملة تُسجَّل بشكل علني يمكن للجميع مراجعته.
- العدالة: توزيع الفرص والاستثمارات بناءً على آليات موضوعية، لا على العلاقات الشخصية.
حوكمة رقمية عبر الـ e-voting
لا تتوقف فائدة البلوك تشين عند إدارة الأصول، بل تمتد إلى آلية صنع القرار داخل الشركة. من خلال نظام e-voting اللامركزي، يستطيع المساهمون (بمن فيهم ممثلون عن الحكومة والمواطنين والمستثمرين) التصويت مباشرةً على القرارات الإستراتيجية، مثل الميزانيات أو مشاريع التطوير. هذا النموذج يلغي هيمنة الأقلية ويجعل الإدارة خاضعة لإرادة الأغلبية، مع تسجيل كل صوت بشكل آمن وشفاف
.
فوائد تتجاوز الجانب الاقتصادي
- تعزيز الثقة: الشفافية المطلقة في الإدارة تجذب المستثمرين الذين يخشون المخاطر غير المحسوبة في النظم التقليدية.
- كفاءة عالية: تقلص البلوك تشين الحاجة إلى وسطاء، مما يخفض التكاليف ويسرّع العمليات.
- مكافحة الفساد: استحالة تزوير السجلات أو إخفاء المعاملات تُجفّف منابع الفساد الإداري والمالي.
التحديات وخطوات التنفيذ
بالطبع، يتطلب تبني هذا النموذج تحديث البنية التشريعية والتقنية، مثل:
- وضع إطار قانوني يعترف بالتوكنيزشن كدليل ملكية معتمد.
- تأهيل الكوادر البشرية لإدارة المنصات الرقمية.
- توعية المواطنين بأهمية المشاركة في صنع القرار عبر آليات الـ e-voting. التغيير ليس رفاهية، بل ضرورة
كما قال أينشتاين: “الجنون هو أن تفعل الشيء نفسه مراراً وتكراراً وتتوقع نتيجة مختلفة”. إن الاستمرار في النهج التقليدي لإدارة المدن، مع تكرار مشكلات الفساد وتراجع الثقة، هو ضرب من الجنون. إن التحول إلى شركة مساهمة غير مدرجة تعتمد على تقنيات المستقبل ليس مجرد خطوة نحو الحداثة، بل إعلانٌ بأن الحقوق والفرص يجب أن تُدار بمنطق العدالة، لا بمنطق القوة أو الواسطة. فقط حينها تصبح المدينة مساحة للجميع، لا حكراً على فئةٍ تُديرها من خلف الجدران المغلقة.