سامح المحاريق
ترجمت عبارة الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر Survival of the fittest بصورة خاطئة لتشيع بأنها البقاء للأقوى، بينما هي البقاء للأنسب، أو الأكثر قدرة على التكيف مع الظروف الخارجية، وربما يكون التأمل في هذه العبارة سببًا لتفهم ديناميكية الدولة الأردنية في محيطها العربي والإقليمي، على الرغم من أن أداءها لا يحظى بإعجاب واسع بين الجموع العربية التي تفضل الإنشاءات الكبيرة والفخمة، أو كما وصفها نزار قباني بـ (العنتريات التي ما قتلت ذبابة)، ولعل الأردن تبنى أقصى درجات الواقعية السياسية بعد حرب حزيران 1967 حيث وقف مع الأشقاء في مصر وسوريا وتلقى حصته من التكلفة الثقيلة للتصعيد الذي قاده الرئيس جمال عبد الناصر من خلال خطابات رنانة أطربت العرب من الخليج إلى المحيط وتركتهم خائبين ومشوهين نفسيًا ومعنويًا لعقود من الزمن.
بعد ذلك بسنوات، كان الأردن بعيدًا عن ترتيبات مصر وسوريا لحرب 1973، وهي الحرب التي أنتجت على أساس أنها انتصار عسكري مع أن القوات الإسرائيلية وصلت أثناءها إلى مسافة قريبة من القاهرة لم تحدث حتى أثناء نكسة حزيران، وكان الأردن يستشعر كثيرًا من الضيق أمام العنتريات العربية، ومنها دعوات الرئيس علي عبدالله صالح بفتح الحدود لمواجهة إسرائيل بجيش تلقى هزيمة سريعة من أرتيريا المستقلة حديثًا في الصراع حول جزر حنيش، ولم يكن القذافي بعيدًا عن الاستعراضات العنترية في القمم العربية.
هل كان يعني ذلك أن الأردن يفتقد الشجاعة الكافية للمواجهة، هل كان صامتًا على الدوام؟ هل أثرت الحناجر القوية على قراراته؟ التاريخ يقول غير ذلك، من قمة الخرطوم 1967 إلى الدار البيضاء 1974 إلى القاهرة 1990، وبما يعني أن الأردن يتحرك بهدوئه المعتاد ليتخذ القرار الأصوب، أو ما يراه صائبًا من غير أن ينزلق في الاستعراضات اللغوية، وأحداث لقاء البيت الأبيض كانت نموذجًا واضحًا للأسلوب الأردني المنضبط في مواجهة رئيس يأتي من الشوارع الخلفية للسياسة الأميركية بتاريخ أقل ما يوصف بأنه غير المشرف، وبما يظهر الأزمة التي وصلتها الديمقراطيات الغربية المنساقة وراء الشعبوية التي تقود شعوبًا تائهةً في تحديات التحولات الكبرى في مجالات الاتصال والتكنولوجيا.
البروتوكول الأردني يستند بتاريخه إلى مائة عام من مؤسسة بدأت مع المملكة الأردنية الهاشمية، بسيطة وغير متكلفة، ولكنها تقدم أداءً مشهودًا، فعمان عاصمة اعتادت أن تستقبل قادة العالم بصورة مستمرة، وكانت المشاركات الملكية حاضرة في كثير من المحافل العالمية، وفي المقابل، كان رئيس لا يحترم فكرة البروتوكول ولديه هامش واسع للارتجال، ولكن ما فعله الرئيس الأميركي تجاوز جميع الحدود، والترتيبات المسبقة التي كان يفترض أن تكون متسعةً للحديث عن خطوات عملية من أجل تجاوز الأزمة الجارية في غزة من خلال تحالف عربي كان الأردن الدولة الأولى التي تحصلت على فرصة تقديمه، فالملك لم يذهب لواشنطن ليقول لا للتهجير، لأن الموقف الأردني معروف مسبقًا، ولم يكن ترامب يتوقع أن يتحصل على إعلان من الملك يتحدثان فيه عن أعداد المهجرين الذين سيستضيفهم الأردن، ولكن الرحلة الأردنية أتت بعد زيارات واتصالات ملكية مع أكثر من عاصمة عربية ناقشت مدى استعداد كل منها للمساهمة في خطة إعمار غزة.
تحدث الملك أيضًا عن مصر، وهو أمر لم يعجب الخصوم السياسيين للنظام المصري، ولكن من يمكن أن يقود عملية إعادة الإعمار سوى مصر التي تعتبر المنفذ الوحيد لقطاع غزة، وهل يمكن أن نمدد أنابيب خلاطات الأسمنت من الطائرات مثلًا؟
لم يتوجه الملك إلى واشنطن بوصفه ملكًا للأردن، فالمناورة الغزية تخفي وراءها مسألة الضفة الغربية، وهذه معركة مؤجلة ولها شروطها المختلفة، ولكنه توجه بوصفه زعيم عربي يحمل أوراقًا مناهضة لمشروع التهجير من حيث المبدأ، وليس التفاوض على جهة التهجير، وللحيلولة دون التهجير فلا بد أن يطرح الإعمار الذي يحاول أن يسرقه ترامب من خلال تصوراته العقارية التي تسعى إلى ريفيرا لا تتسع لسكان غزة من الفقراء، وبالتالي، أدرك الملك أنه من الضروري أن يطلق مبادرة توضع مقابل أفكار ترامب وتوجهاته.
ما لم يعرفه ترامب أن الملك مدرب كثيرًا على الاستماع للغث والسمين بحكم تواصله الدائم على المستويين المحلي والعربي، وأن اختيار الكلمات أتى ليقطع أي طريق ليخرج ترامب عن النص بأكثر مما خرج، لذلك أتت عبارات الملك لتحمل الإحالة إلى الوقت وإلى جهة ما، وهي الفريق العربي الذي سيتصدى لإشكالية الترتيبات في قطاع غزة، وبما يفوت على ترامب فرص أن يتخذ من أي إشارة سلبية أو إيجابية ليتخذها منعطفًا في الحوار، بمعنى قطع طريق المهاترات والجدل أمام رئيس يتصرف مثل كومسيونجية المزادات.
يستمر الأردن في سياسته الهادئة والناضجة لأن مسؤولية إعاشة أكثر من 10 ملايين إنسان في منطقة صاخبة عاشت لأكثر من عقد كامل على برميل بارود لا يجب أن تتحول إلى مساحة للعنتريات، والأردن يخاطب الكيان الجمعي العقلاني الذي تعلم من دروس التاريخ وتجاربه، ولا يعنيه من كانوا ينتظرون (طوشة بالأيدي) في البيت الأبيض كما كتب الأستاذ أحمد أبو خليل، ولكن يبدو أن فهم السياسة الأردنية أمر يمكن ألا يتحقق في قريبًا، وأن حالة الاحباط التي تحاوط أي موقف أردني ستبقى متصلة، لأن الإعلام الأردني للأسف لم يصبح من الأولويات إلا للاستهلاك المحلي، وكأن الأردن يجاور رواندا أو يتاخم الإكوادور، وليس دولة تعيش في صراع متواصل يتطلب تمتين التحالفات ومواجهة خطاب استعدائي أو تشكيكي يسعى لخلخلة المواقف أو إزاحتها.