أخبار حياة – رغم كل الضجة المثارة حول الذكاء الاصطناعي، يظل العقل البشري هو المعجزة الحاسوبية الأكثر كفاءة على وجه الأرض.
فهو قادر على إجراء العدد الهائل نفسه من العمليات الحسابية في الثانية الواحدة التي تجريها أضخم وأقوى الحواسيب الخارقة في العالم، إلا أنه – وبشكلٍ مدهش للغاية – لا يحتاج سوى طاقة بسيطة تعادل ما يستهلكه مصباح صغير في الثلاجة.
وفي محاولة لاستكشاف فكرة مبتكرة وغير تقليدية نطرح السؤال التالي: كيف يمكننا فهم اقتصاديات العقل البشري؟ فقد ظهر مؤخراً اتجاه بحثي جديد يسلط الضوء على ما يسمى «رأس المال الدماغي» – وهو مفهوم يجمع بين صحة الدماغ وقدراته ومهاراته المختلفة.
قد يبدو هذا المفهوم غريباً، لكنه مهم لسببين: أولاً، منذ انطلاق الثورة الصناعية، باتت الآلات تحل محل القوة العضلية والمهام الذهنية الروتينية. وكشف تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي أن نسبة الأنشطة التي سيؤديها البشر ستنخفض من 50% إلى 33% بحلول عام 2030، وهو ما يعني أن الميزة التنافسية للبشر ستتركز في مجالات التفكير المتقدم.
ثانياً، مع زيادة متوسط العمر المتوقع للإنسان، لم تعد أعمار التقاعد التي تحددها الحكومات ذات أهمية كبيرة في الاقتصادات القائمة على المعرفة، فالمهارات المعرفية التي يمتلكها الفرد أصبحت أصولاً استثمارية طويلة الأمد، على عكس القوة البدنية التي تتراجع مع التقدم في العمر.
غير أن «رأس المال الدماغي» يواجه تحديات وضغوطاً متزايدة. فالأمراض التي تؤثر على وظائف المخ – والتي تشمل الاضطرابات النفسية، والإدمان، والأمراض العصبية المختلفة – تكبد الاقتصاد العالمي خسائر هائلة تقدر بنحو 5 تريليونات دولار سنوياً.
وهو مبلغ يعادل حجم الاقتصاد الألماني بأكمله في الوقت الحالي. والأخطر من ذلك أن هذه التكلفة مرشحة للارتفاع إلى 16 تريليون دولار بحلول عام 2030.
وتكشف إحصاءات منظمة الصحة العالمية أن الاكتئاب أصبح السبب الرئيسي للإعاقات في جميع أنحاء العالم، حيث ارتفعت نسبة انتشاره بشكل مثير للقلق بنسبة 89% منذ عام 1990. أما مرض الزهايمر وأنواع الخرف الأخرى.
فقد شهدت زيادة دراماتيكية بلغت 161%، ويرجع ذلك إلى ظاهرة شيخوخة المجتمعات. وتزداد خطورة المشكلة مع امتدادها عبر جميع الفئات العمرية، حيث يفقد المزيد من الأشخاص سنوات صحية بسبب تدهور الصحة النفسية خلال سنوات العمل.
وتواجه قدراتنا الدماغية ضغوطاً متزايدة من نوع آخر. ويشرح دان نيكسون، المتخصص في «اقتصاد الانتباه»—الذي يرى أن الانتباه بات مورداً نادراً يزداد الطلب عليه—قائلاً:
«حياتنا العقلية باتت أكثر تشتتاً من أي وقت مضى، في عالم تتنافس فيه التطبيقات بلا توقف للاستحواذ على انتباهنا وتحويله إلى أرباح».
وتشير التقديرات إلى أن حجم العالم الرقمي يتضاعف كل عامين، حيث يتم إنتاج كمية هائلة من البيانات تقدر بـ 2.5 كوينتليون (مليون تريليون) بايت يومياً والأهم من ذلك أن معظم هذه البيانات أصبحت متاحة لنا بضغطة زر.
وتكشف دراسة عالمية عن ارتفاع الوقت الذي نقضيه أمام الشاشات—أجهزة الكمبيوتر، الهواتف، التلفاز، وأجهزة الألعاب—من 9 ساعات يومياً في 2012 إلى 11 ساعة في 2019، مع زيادة ساعتين تقريباً في استخدام الهواتف المحمولة وجاءت جائحة كورونا لتعزز الارتفاع.
ويواجه العقل البشري تحدياً متزايداً في التعامل مع الضغوط على انتباهه، حسبما يؤكد ثاليس تيكسيرا، الأستاذ السابق في هارفارد للأعمال. فقد أظهرت أبحاثه ارتفاعاً كبيراً في تكلفة جذب انتباه المستهلكين.
مستشهداً في هذا السياق بمؤشر تكلفة 1000 مشاهدة للإعلانات التلفزيونية خلال مباراة السوبر بول وأوقات الذروة في الولايات المتحدة. وقد ارتفعت هذه التكلفة بشكل حاد، خاصة مع انتشار الإنترنت.
ورغم أن قضاء وقت أطول أمام الشاشات قد يفتح آفاقاً جديدة للوصول إلى الأخبار والمعلومات والترفيه، فإن التعرض المفرط للمحتوى قد يؤدي إلى تأثيرات سلبية على التركيز والقدرة على معالجة المعلومات.
وتحذر الدكتورة ميثو ستوروني، مؤلفة كتاب «الكفاءة الفائقة» الذي يتناول سُبل تحسين أداء الدماغ، قائلة: «التعرض المستمر لسيل لا ينتهي من المعلومات والإشعارات يمكن أن يؤدي إلى إرهاق شديد لقدراتنا المعرفية».
وتؤكد الأبحاث العلمية وجود علاقة وثيقة بين الإفراط في استقبال المعلومات وصحة الدماغ. فقد كشفت الدراسات أن الاستخدام المفرط لوسائل التواصل الاجتماعي يرتبط بارتفاع معدلات الاكتئاب، خاصة بين الشباب.
كما أن قضاء وقت طويل أمام الشاشات يمكن أن يؤدي إلى تفاقم أعراض اضطراب نقص الانتباه وفرط الحركة. ولا يقتصر تأثير التكنولوجيا الرقمية على ذلك، بل يمتد ليشمل العنصر الثالث والأهم من «رأس المال الدماغي» – وهو المهارات.
والمفارقة أن هذه المهارات نفسها تتعرض لضغوط شديدة بفعل إرهاق الدماغ. فالمشتتات الرقمية تعيق التفكير الإبداعي، بينما يؤدي التوتر الناتج عن فرط المعلومات إلى استنزاف القدرة على التكيف والمرونة.
ويشير نيكسون إلى ظاهرة «دافع اللاواعي للإمساك بالهاتف»، حيث نصل إلى هواتفنا دون سبب واضح، مدفوعين بجرعة دوبامين ناتجة عن تصفح المحتوى الرقمي.
ويكشف المسح الشامل للمهارات لدى البالغين، الذي أجرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، عن أن الاقتصادات المتقدمة شهدت تراجعاً في مهارات القراءة والكتابة أكثر من التحسن خلال السنوات العشر الماضية.
ويقدم ديفيد روبسون، الكاتب العلمي المتخصص ومؤلف كتاب «فخ الذكاء»، تحليلاً لهذه الظاهرة قائلاً: «تظهر الدراسات أن متوسط الأداء في اختبارات الذكاء، الذي ارتفع طوال القرن العشرين، بدأ بالتراجع أو الاستقرار في العديد من الدول.
في النهاية يبرز السؤال التالي: إلى أين يقودنا كل ذلك؟ رغم أن زيادة القدرة على الوصول إلى المعلومات، وتحسن مستويات التعليم عالمياً، والتغذية الأفضل أسهمت في تعزيز رأس المال الدماغي، فإن اتجاهات الصحة العقلية، وارتفاع الضغوط على الانتباه، والعوامل التي تقوّض التفكير النقدي تمثل مصدر قلق متزايد.
يجب أن ندرك جيداً أن العقل البشري مورد ثمين يحتاج إلى تقوية وتطوير مستمرين لدعم رفاهيتنا ونمونا وقدرتنا على الابتكار على المدى الطويل، خاصة في ظل الدور المتعاظم للتكنولوجيا في حياتنا واقتصاداتنا.