في أدب السجون

د.نهلا عبدالقادر المومني
أصعب أنواع الأدب وأشدها وطاة هو أدب السجون- إذا جاز التعبير- ذلك أنّه يعكس حالة خاصة لا يمكن أن يدركها إلا من خاض تجربة احتجاز حريته تعسفا ودون ضمانات كافية أو على أقل تقدير من شهد وشاهد وخالط أفرادا حرموا من حريتهم أو بتعبير أدق فقدت أدوات الحياة لديهم.
في قصيدته يخاطب هاشم الرفاعي والده في الليلة السابقة لتنفيذ حكم الإعدام بحقه قائلا:
«أبتاه ماذا قد يخط بناني والحبل والجلاد ينتظراني
هذا الكتاب إليك من زنزانة مقرورة صخرية الجدران
على الجدار الصلب نافذة بها معنى الحياة غليظة القضبان
والصمت يقطعه رنين سلاسل عبثت بهن أصابع السجان
أنا لا أحس بأيّ حقد نحوه ماذا جنى فتمسه أضغاني
هو طيب الأخلاق مثلك يا أبي لم يبد في ظمأ إلى العدوان
لكنه إن نام عني لحظة ذاق العيال مرارة الحرمان».
في كتابه القوقعة يستعرض مصطفى خليفة أيضًا رحلته في زنزانة استمرت ما يزيد على الاثني عشرة عاما ليطلق سراحه بعدها دون تهمة قد وجهت له ودون محاكمة، يخرج مصحوبًا بكلمة اعتذار، ليبقى بعد مغادرته السجن يحمله في داخله فيتساءل: «هل سأحمل سجني إلى القبر؟» ويستطرد: «قضيت داخل قوقعتي في السجن الصحراوي آلاف الليالي استحضر المئات من أحلام اليقظة، كنت أمنّي النفس أنه إذا قيض لي أن أخرج من جهنم هذه، سوف أعيش حياتي طولًا وعرضًا وسأحقق كل هذه الأحلام التي راودتني هناك… الآن وقد مضى عام كامل، لا رغبة لدي في عمل شيء مطلقًا، وقوقعتي الثانية التي أجلس فيها الآن تزداد سماكة وقتامة…».
علي عزت بيجوفيتش في كتابه هروبي إلى الحرية يقول: «يعاني المرء في السجن من نقص في المكان وفائض في الزمان، وللأسف الزمان والمكان لا يمكن لأحدهما أن يعوض عن الآخر».
أما في قطاع غزة وعموم فلسطين فقصة أخرى، أصبحنا بحاجة لنؤسس لأدب مختص يستأثرون به، أدب قادر على نقل ولو جزء هين من تلك التضحيات والمعاناة التي يرزحون تحتها بفعل كيان محتل، ما فتئ يستخدم الأسر سلاحا أساسيا في فرض إرادته ووجوده، إنها السجون التي لا ترحم، بعيدا عن أعين الرقابة عليها وعلى أحلام وأعمار من يقطنون فيها، عبارة لخصت المشهد كاملا «أنا طبيب أطفال» قالها الدكتور حسام أبو صفية في سجون شيدت ابتداء من أجل الظلم والظلمات، ولكن لسان حال من فيها يقول «ما يفعل أعدائي بي، إن جنّتي في قلبي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسوني فحبسي خلوة وإن قتلوني فقتلي شهادة…».
في السياق التاريخي كان جلّ نضال البشرية عبر مسيرتها إعلاء لفكرة الحرية وكلمتها، واختبر الإنسان الصراع مع السلطات في أعلى ذروته من أجل الإبقاء على الحرية جوهرا لقيامة الشعوب وكرامتها، لذلك يقول بيجوفيتش أيضا «لا ينبغي إثبات مزايا الحرية بشيء خارج الحرية ذاتها؛ فالحرية مكتفية بذاتها».
إذا هو أدب السجون الذي لم يأخذ حقه بعد في عالم أحوج ما يكون لأن يعرف عما يدور داخل أروقتها في أماكن امتهنت الظلم، إنه أدب شديد الوطأة لكنه أصدق قيلا، فهو الذي يختبر النفس البشرية في أضعف حالاتها وأقواها في الوقت ذاته، إنّه أدب التناقضات.