مراجعات ضرورية

سائد كراجة

“علينا أن نطرد العرب ونأخذ أرضهم”– ديفيد بن غوريون 1937، هذه العبارة ليست عبارة عابرة، بل هي تجسيدٌ لعقيدة التهجير التي تمثل العمود الفقري للمشروع الصهيوني، فقد ارتبط هدف احتلال الأرض بطرد سكانها الأصليين كعملية متكاملة مترابطة تخضع لأساليب ومواقيت مختلفة حسب الوضع المحيط بها، وبهذا فإن التهجير لم يكن نتيجة عفوية ترتبت على حرب 1948 بل سياسة ممنهجة نفذت وستنفذ بأساليب مباشرة وغير مباشرة.

لم تكن الضفة الغربية استثناءً في هذا النموذج؛ حيث عمدت إسرائيل ومنذ حرب 1967، لخلق بيئة تدفع المواطن الفلسطيني للهجرة، وذلك بتصعيب حياته اليومية والاقتصادية، بينما تنتشر المستوطنات، ويتحول المستوطنون تدريجيا إلى مليشيات تمارس عملية التطهير العرقي تحت إشراف وحماية جيش العدوان الصهيوني، وبغطاء زمني وفرته عملية أوسلو للسلام.

ما جرى في الضفة ليس مجرد عملية توسيع للمستوطنات، بل إعادة تشكيل سكاني ضمن مخطط أشرفت عليه دولة الاحتلال. هنالك أكثر من 750 ألف مستوطن في مستوطنات شكلت مدنا صغيرة قطَّعت أوصال الضفة، في حين مُنع الفلسطينيون من البناء، وهدمت منازلهم وهم يتعرضون لهمجية المستوطنين، والتي أصبحت أداة دولة الاحتلال المعتمدة للتهجير. ففي العام السابق، سُجل أكثر من 1400 اعتداء نفذه المستوطنون، دون أي محاسبة، والهدف المعلن وغير المعلن هو خلق ظروف تجعل الهجرة الطوعية أو القسرية للفلسطينيين واقعًا ماثلاً للعيان.

إن التهجير في الضفة هو تهديد وعمل عدواني موجه ضد الأردن، وهذا متفق عليه، ففي مخيلة وخطط دولة الكيان تعتبر الأردن مكان تنفيذ مشروع التهجير لحل أزمة دولة الاحتلال وذلك بطرد الفلسطينيين وإعلان الدولة اليهودية، ولهذا جاء الموقف الأردني الرسمي بأن “التهجير إعلان حرب”، وهو موقف دقيق، لكنه يجب أن يُترجم إلى إستراتيجية متكاملة، لأن التهجير كما يمارس ليس خاطرا طرأ على ذهن دولة الكيان، وثبت بأن إسرائيل لم تنظر يومًا إلى السلام مع الأردن كالتزام إستراتيجي، بل كأداة مرحلية لإدارة علاقتها به وفق مصالحها.

قام رهان الدولة العميقة الأردنية في التسعينيات على أن الولايات المتحدة لن تسمح بالتعرض للأردن ككيان ودولة، وقد يكون هذا صحيحًا في سياق معين، ولكنه ليس مضمونًا إذا تعارضت المصالح الأردنية مع الطموحات الإسرائيلية. وما صفقة القرن ومشاريع “ريفيرا ترامب” إلا دلائل على أن الأردن ليس بمنأى عن الاستهداف، وأن الضمانات الدولية قد تنهار عند أول تضارب جاد في المصالح. ولهذا صار لازما أن تجري الدولة العميقة في الأردن مراجعة شاملة قد يقودها المركز الوطني للأمن وإدارة الأزمات لفقه وفكر الردع بالسلام مع إسرائيل الذي تبنته لعقودٍ طويلة والانتقال إلى فكر الردع بالاستقلال الاقتصادي والسياسي.

إن أول أسس المراجعة هو إعادة التدقيق فيما يُعرف بالجبهة الداخلية. تمتين الجبهة الداخلية لا ينبغي أن يكون مجرد خطاب إعلامي، فعلى الرغم من أهمية السرد الوطني الإعلامي داخليًا، إلا أنه قد حان الوقت لدراسة الجبهة الداخلية الأردنية بعلمية، وتحديد قنوات اختراقها المحتملة – لا قدّر الله – بشكل موضوعي ودقيق. بناءً على ذلك، يجب وضع الخطط وتنفيذ الإجراءات اللازمة لتعزيزها، بدلاً من الاكتفاء بالكلام العاطفي الإعلامي.

علينا أن نسدّ الفراغ الذي يتركه غياب إستراتيجية علمية لتمكين الجبهة الداخلية، ذلك الفراغ الذي تملؤه اليوم ضوضاء وسائل التواصل الاجتماعي، بما تحدثه من تأثيرات سلبية واضحة.

مراجعة الدولة العميقة لفكرها وإستراتيجياتها لم تعد خيارا ترفيا بل ضرورة لحماية المصالح العليا للأردن. ونحن دولة وشعبا تجاوزنا الكثير من الصعاب الوجودية، وإن غدًا لصانعه قريب جنابك.

مقالات ذات صلة

شارك المقال:

الأكثر قراءة

محليات