د.نهلا عبدالقادر المومني
حادثة الطفل الذي تعرض للاعتداء من قبل زملائه في إحدى مدارس المملكة، لا يمكن فصلها عن سياق عام على المستوى الاجتماعي والتعليمي والثقافي والرعائي والحقوقي، أيضا أدى الاختلال في حلقاته المتقاطعة والمتشابكة إلى أن تطفو على السطح مظاهر وجرائم وتحديات تعكس جذور هذا الخلل، وتدق ناقوسًا إضافيًا بأن معالجة القضايا الكبرى ذات العلاقة بالأمن الاجتماعي لا يمكن أن تتم انفصالًا عن معالجة سياق عام تتقاطع فيه الأدوار والمسؤوليات.
هذ الحادثة بالرغم مما تنطوي عليه من مأساة حقيقية خاصة وانها حدثت من قبل أفراد ما زالوا في مرحلة الطفولة، وفي الوقت ذاته ترويعها للمجتمع الأردني إلا أن مسائل مهمة تتطلب الوقوف أمامها وعليها بعد أن تمّ التعاطف والاستنكار من أفراد المجتمع والقطاعات كافة؛ أبرزها:
أولًا: حادثة كهذه خطورتها تكمن في أنها تؤشر إلى وجود حوادث أخرى، لا نعلم حجمها وعددها دقةً ولكنها بكل تأكيد قد تكون حدثت ضمن سياقات وأماكن وظروف وأشكال مختلفة تتراوح أيضا في جسامتها، ولكن ليست كل الحوادث بطبيعتها تصل للإعلام ويقيض لها الانتشار لتصبح قضية رأي عام وذلك لاعتبارات ومحددات مختلفة، إلا أن الحقيقة الثابتة أن هناك أفعالا عديدة قد تمت ولا تزال. وما ينبغي أن يتم هو دراسة مؤشرات هذه الحادثة ووضع أدوات علمية قادرة على الوقوف على مدى انتشار العنف والاعتداءات في البيئة المدرسية.
ثانيًا: البيئة التعليمية والمنظومة التربوية عموما ينقصها خلق جيل قادر على تبني قضايا ترفع من سوية بناء الشخصية الإنسانية وتعزز قيم التسامح والتعددية؛ في مقال سابق بعنوان «سعادة القيم منظور تربوي حديث «كنت قد أشرت إلى أن القيم وسعادتها أو سعادة القيم لم يعد مدلولا عابرا أو ذا أبعاد عاطفية مثالية وإنما هو ضرورة لازمة في بناء المجتمعات؛ لذا فإن الدول اليوم صاحبة النهضة التعليمية أدركت أهمية البناء الأخلاقي للأجيال فارتكزت في مناهجها على منظومة القيم لإدراكها العميق أن تغيرا مجتمعيا وتنمية مستدامة لا يمكن أن تنطلق بعيدا عن منظومة قيمية؛ فمثلا إذا ما أردنا لجماعة أن تدافع عن الحق في بيئة سليمة وتقف في وجه معطيات التغير المناخي لا بد وأن تكون قد زرعت في نفوس أبنائها وعبر منظومة قيمية تربوية تضامنا إنسانيا مع العالم وعلاقة طيبة مع مكونات الأرض ليدرك الفرد أن أحد أسباب وجوده وبقائه هو تحقيق الخلافة له وللأجيال القادمة على حدّ سواء، وإذا أردنا للعدل وللقانون أن يسود لا يمكن أن لا تنشئ جيلا لا يجعل من الدفاع عن حرية الآخرين وتحررهم قيمة عليا تستحق العمل، ليصبح العدل عنوانا للأمان والنوم ملء الجفون لما يخلفه من آثار على استقرار المجتمع وبنائه، وهكذا دواليك، حيث انه وللأسف حوادث عديدة تكشف لنا يوما بعد آخر أن هناك تراجعا في المنظومة القيمية، وثقافة تتجذر بان العملية التعليمية هي مسار اجتماعي ومسار للوصول الى مكتسبات مادية ووظيفية، ولا يوجد أي إشكالات في ذلك، إلا أن الإشكالية الأكبر هو تضاءل النظر للعملية التعليمية على أنها مفصل مهم في بناء شخصية إنسانية متوازنة.
ثالثا: المساحات الآمنة، فكل ما يتعلق بالمنظومة التعليمية يتوجب أن يعكس مفهوم المساحات الآمنة، ابتداء من البيئة المدرسية والبنية التحتية والتعامل المستند إلى أسس تربوية وعلمية، وقدرة الطلاب في الوقت ذاته عن التعبير عن مشاعرهم وأفكارهم وإكسابهم مهارات واضحة في هذا الإطار وتلقيهم إرشادا نفسيا وسلوكيا يعمل على تعديل السلوك مع مراعاة الخصائص النمائية لكل مرحلة من المراحل.
هذا ما يجب أن يكون ولكن ما هو قائم في العديد من الحالات إن لم يكن أغلبها يفتقر لبيئة مدرسية تحقق مفهوم المساحات الآمنة؛ فعلى أقل تقدير كيف يتحقق مفهوم المساحة الآمنة على صعيد البنية التحتية إذا ما كانت المدارس حتى الآن تعتمد وسائل تدفئة لا تتوفر فيها معايير السلامة لفئة عمرية كفئة الأطفال، وعلى صعيد آخر كيف يتحقق مفهوم المساحة الآمنة إذا كان تعديل السلوك ومنهجياته وآلياته والتعامل مع الأطفال ما يزال يراوح مكانه وينحصر في أطر شكلية بحتة وغير ذلك الكثير من الأمثلة.
أسئلة عديدة يتوجب أن تكون حوادث كتلك فرصة ثمينة للإجابة عنها وصولا إلى وضع آليات قابلة للقياس والتنفيذ وقادرة على ردم الفجوة بين ما هو قائم وما يجب أن يكون، حتى لا نشهد حوادث من هذا النوع مستقبلا، وبغير ذلك سنضطر آسفين إلى أن نشهد ظواهر مؤلمة بين الحين والآخر لنعود لنستنكر واقع الحال ونتعاطف دون العمل على حلول جذرية لقضايا تشكل عاملا حاسما في بناء المجتمعات والأفراد مثل مسألة التعليم.