د. لبنى حنا عماري
يشهد العالم تحولًا رقميًا متسارعًا يعيد تشكيل مفاهيم الإنتاج والابتكار، مدفوعًا بتطورات تكنولوجية غير مسبوقة تؤثر في مختلف القطاعات، ومن بين هذه التقنيات الحديثة التي بدأت تأخذ حيزًا متزايدًا في المشهد الصناعي تبرز الطباعة ثلاثية الأبعاد باعتبارها إحدى الأدوات التي يمكن أن تعيد تشكيل طرق الإنتاج والتصنيع التقليدية، حيث تعتمد هذه التقنية على إنشاء نماذج ومجسمات ثلاثية الأبعاد من خلال تصميمات رقمية يتم تنفيذها بواسطة طابعات متخصصة تستخدم مواد متنوعة مثل البلاستيك والمعادن والسيراميك وحتى الأنسجة الحية، وبينما انتشرت هذه التقنية عالميًا وبدأت تلعب دورًا حيويًا في العديد من الصناعات، فإن السؤال المطروح اليوم هو ما إذا كانت الطباعة ثلاثية الأبعاد قادرة على إحداث ثورة في قطاع الصناعة في الأردن وكيف يمكن أن تؤثر على الاقتصاد المحلي وسوق العمل.
يمتلك الأردن بيئة صناعية متنوعة تشمل قطاعات عدة مثل الصناعات الدوائية والهندسية والبلاستيكية، ومع التوجه نحو تبني التكنولوجيا الحديثة لتعزيز القدرة التنافسية، تبرز الطباعة ثلاثية الأبعاد كحل واعد يمكن أن يسهم في تحسين عمليات الإنتاج وتخفيض التكلفة وتقليل الهدر في المواد الخام، فهذه التقنية توفر للشركات إمكانية إنتاج نماذج أولية بسرعة وكفاءة، مما يتيح للمصنعين اختبار المنتجات وتعديل تصميماتها قبل الدخول في مرحلة الإنتاج الضخم، الأمر الذي يسهم في تحسين الجودة وتسريع عملية التطوير، كما أن المرونة التي توفرها الطباعة ثلاثية الأبعاد تجعلها مناسبة للشركات الناشئة والمبتكرين الذين يسعون إلى إدخال منتجات جديدة إلى السوق دون الحاجة إلى استثمارات ضخمة في المعدات والتجهيزات التقليدية.
وفي القطاع الطبي بدأت الطباعة ثلاثية الأبعاد تحقق إنجازات لافتة في الأردن، حيث تستخدم بعض المراكز الطبية هذه التقنية لإنتاج نماذج تشريحية تساعد الأطباء في التخطيط للعمليات الجراحية المعقدة، بالإضافة إلى تصنيع أطراف صناعية بتكلفة منخفضة مقارنة بالطرق التقليدية، الأمر الذي يفتح الباب أمام توفير حلول طبية مخصصة للمرضى بطريقة أكثر كفاءة وبتكاليف أقل، كما أن قطاع الهندسة المعمارية والتصميم الداخلي بدأ في الاستفادة من هذه التقنية لإنتاج مجسمات ونماذج تفصيلية تسهم في تقديم تصورات دقيقة للمشاريع قبل تنفيذها على أرض الواقع، مما يساعد في تحسين عمليات التخطيط والبناء.
ورغم الفرص الواعدة التي توفرها الطباعة ثلاثية الأبعاد، لا تزال هناك تحديات تواجه انتشارها على نطاق واسع في الأردن، من أبرز هذه التحديات ارتفاع تكلفة الطابعات ثلاثية الأبعاد والمواد المستخدمة في الطباعة، حيث أن الاستثمار في هذه التقنية يتطلب ميزانيات مرتفعة قد لا تكون متاحة لجميع الشركات والمصانع، بالإضافة إلى ذلك فإن الحاجة إلى كوادر مؤهلة تمتلك المعرفة والخبرة في تصميم النماذج ثلاثية الأبعاد وتشغيل الطابعات المتقدمة يشكل تحديًا آخر، ما يستدعي ضرورة تطوير برامج تعليمية وتدريبية متخصصة لتأهيل المهندسين والفنيين القادرين على التعامل مع هذه التكنولوجيا بكفاءة، كما أن بعض القطاعات الصناعية التقليدية قد تكون مترددة في تبني هذه التقنية بسبب التخوف من تأثيرها على العمالة التقليدية، إذ أن التحول إلى الطباعة ثلاثية الأبعاد قد يقلل من الحاجة إلى بعض الوظائف اليدوية، مما يتطلب إعادة تأهيل القوى العاملة لمواكبة المتغيرات الجديدة.
على الرغم من هذه التحديات، فإن الفرص التي تقدمها الطباعة ثلاثية الأبعاد لا يمكن تجاهلها، ومع تزايد الاهتمام بهذه التقنية من قبل الجامعات والمؤسسات البحثية في الأردن، يمكن أن يكون هناك مستقبل واعد لهذه التكنولوجيا في مختلف القطاعات الصناعية، حيث إن دعم الأبحاث والتطوير في هذا المجال يمكن أن يسهم في إيجاد حلول محلية لتحديات التصنيع ويقلل من الاعتماد على الاستيراد، كما أن التحفيز الحكومي والاستثمارات في هذا المجال يمكن أن يشجعا الشركات والمصانع على تبني الطباعة ثلاثية الأبعاد والاستفادة من مزاياها في تحسين الإنتاجية وزيادة القدرة التنافسية على المستويين المحلي والدولي، ومن هنا فإن نجاح الطباعة ثلاثية الأبعاد في إحداث ثورة صناعية في الأردن يعتمد على مدى القدرة على تهيئة بيئة ملائمة لتبني هذه التقنية والاستفادة منها بشكل استراتيجي في دفع عجلة التنمية الاقتصادية.