مأتم عزاء على طفلي “بيباس”.. عندما لا تتسع إنسانية العالم لأطفال غزة

أخبار حياة – أقام البيت الأبيض ما يُشبه مأتمًا وحدادًا على طفلين قُتلا خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، بينما كانا في صحبة أمهما المجندة في جيش الاحتلال الإسرائيلي، والتي أسرتها المقاومة الفلسطينية في السابع من أكتوبر عام 2023، واعتبرت واشنطن أن مقتل الطفلين مأساة كبيرة تُعبّر عن “وحشية المقاومة التي تسببت بمقتلهما”، بحسب الزعم الإسرائيلي والأمريكي.
والخميس الماضي، سلمت الفصائل الفلسطينية في غزة 4 توابيت لجثامين إسرائيليين، وقالت إنها لشيري بيباس وطفليها كفير وأرئيل، والأسير عوديد ليفشتس، وذلك ضمن الدفعة السابعة من المرحلة الأولى باتفاق وقف إطلاق النار، فيما أكدت حركة حماس في خطاب لعائلة بيباس: “كنا نفضل أن يعود أبناؤكم إليكم أحياء لكن قادة جيشكم وحكومتكم اختاروا قتلهم وقتلوا معهم 17 ألفا و881 طفلًا فلسطينيًّا”، علمًا بأن أسر المقاومة للطفلين الإسرائيليين، لم يكن مقصودًا بذاته، ولكنّ المقاومة ألحقتهما بأمهما حتى لا يفقدا رعايتها خلال فتة غيابها في الأسر.
بواكي طفلي بيباس
وعلى الرغم من أن مقتل الطفلين كان بفعل القصف الإسرائيلي الهمجي الذي لم يترك بقعة فوق أرض قطاع غزة أو تحتها إلا واستهدفها، وعلى الرغم أن حركة حماس كانت قد حذرت من ذلك السيناريو منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة وقالت إن أسرى الاحتلال في خطر بسبب ما يقع عليهم من قصف متواصل، بل إن الإعلام الإسرائيلي وعائلات الأسرى وأحزاب المعارضة الإسرائيلية، أكدوا أن تلكؤ نتنياهو عن عقد صفقة مع المقاومة في بداية الحرب كان السبب في مقتل العديد من الأسرى بينما كان في الإمكان إنقاذهم أول الأمر لولا إصرار نتنياهو وحكومته اليمينية على استمرار الحرب لكسب مصالح سياسية، على الرغم من ذلك كله، فإن في قطاع غزة آلاف الأطفال الذين راحوا ضحية لهذا العدوان لم يجدوا بواكي ولا مأتم عزاء في واشنطن كما لقي الطفلان الإسرائيليان.
بيانات مفزعة
“الأطفال ما زالوا تحت الأنقاض.. عمر وعبد الله وماسة”.. تلك عبارة لم تزل مكتوبة على أحد الجدران المدمرة منذ عام، بينما يمكن مشاهدة ألعاب الأطفال متناثرة حول المباني، لا تجد من يستخدمها بعد أن صارت الأيدي الصغيرة ضمن أشلاء ممزقة لم تُرحم حتى بعد موتها بأن تجد لها قبرًا يثويها.
وفي آخر التقارير الرسمية الصادرة من قطاع غزة، قال مدير المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة، إن الاحتلال الإسرائيلي ارتكب 9268 مجزرة بحق العائلات أدت لمسح بيانات وابادة 2092 أسرة بالكامل من السجل المدني، فيما قتل الاحتلال 4889 أسرة ولم يبق منها سوى فرد واحد ليبقى يعاني مرارة الفقد وألم الفراق.
وأضاف الثوابتة أن من العناوين البارزة لتلك الإبادة الجماعية استهداف الأطفال والنساء، فكان من بين الشهداء 17881 طفلًا، منهم 214 رضيعًا ولدوا وماتوا خلال العدوان، وتيتم أكثر من 38 ألف طفل، منهم 17 ألف طفل فقدوا كلا الوالدين، وأن من بين الشهداء 15 ألف طفل في مرحلة الدراسة ما بين (6 : 18 عامًا)، بينما استُشهد 808 أطفال رُضّع (دون سنة).
وتابع “الإعلامي الحكومي” أن 4 آلاف و500 شخص (بينهم 18% أطفال)، تعرضوا لبتر أطرافهم بسبب إصابتهم خلال القصف الصهيوني، وأن نحو 50 ألف طفل طالب أصيبوا أو تعرّضوا لإعاقات دائمة، وأن مليون طفل يحتاجون إلى رعاية طبية ونفسية نتيجة ما حدث لهم طوال فترة الحرب، بينما يعاني 3 آلاف و500 طفلٍ أوضاعًا صحية صعبة جراء نقص الغذاء.
مآسٍ لا تُنسى
مشهد توابيت طفلي بيباس كان سببًا في إعلان الرئيس الأمريكي حزنه الشديد على ما حدث لهما، لكنه لم يكن لديه الوقت الكافي لمتابعة اقتحام الجيش الإسرائيلي مستشفى “النصر” للأطفال غرب مدينة غزة، في 10 تشرين الثاني 2023، وإجبار الطواقم الطبية على المغادرة تحت ترهيب السلاح، فيما رفض إجلاء الأطفال الخدج إلى خارج المستشفى، ما تسبب بوفاة 5 منهم، وفق ما أوردته وزارة الصحة آنذاك، وبعد انسحاب الجيش من حي “النصر” عُثر على جثث الخدج الخمسة متحللة داخل الحضانات وعلى أسرة المستشفى بعدما فرض عليهم الجيش الإسرائيلي الانقطاع عن العلاج اللازم لبقائهم على قيد الحياة.
“وحشية حماس”.. وصفٌٌ ردده عدد من أعضاء الكونغرس الأمريكي عند رؤيتهم مشهد تسليم طفلي بيباس، لكنهم لم تكن لديهم الجرأة على إطلاق ذلك الوصف على حكومة نتنياهو التي قتلت يوسف (ابن السبع السنوات) بعد أن قصف الاحتلال بيتهم ولم تجده أمه التي ظلت تبحث عنه في المستشفيات بين الشهداء والمصابين وهي تصفه للأطباء قائلة “يوسف، 7 سنين، شعره كيرلي وأبيضاني وحلو”،وكانت صدمة الأم بعد ساعات أن وجدت طفلها داخل ثلاجة الموتى.
“روح الروح”
تأثر زعماء الغرب بمقتل كفير وأرئيل بيباس الذين حمتهما المقاومة وقتلهما جيش الاحتلال، بينما أطبقوا أعينهم عن رؤية الشيخ خالد نبهان وهو يودع حفيدته ريم وشقيقها طارق، والذين نالا نفس مصير كفير وأرئيل بيباس، تحت وطأة نيران الجيش نفسه في نوفمبر 2023؛ حيث تابع الملايين مشهد وداع الشيخ خالد لريم وهو يحملها بين ذراعيه قائلا: “روح الروح هذه.. روح الروح”، لكن ريم (ذات الثلاث سنوات) وشقيقها طارق لم يجدا من صناع القرار في الغرب مكانًا في قلوبهما المتفطرة حزنًا على الطفلين الإسرائيليين، لأسباب لم يفصح عنها هؤلاء الزعماء حتى الآن.
“أمانة تعالي خديني”
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أعرب في العديد من الخطابات تضامنه مع استغاثات ذوي لأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، والذين كان من بينهما طفلا بيباس، إلا أنه لم تصله استغاثة الطفلة هند رجب (ذات الستة أعوام) في يناير 2024، والتي تداولها النشطاء ليراها العالم كله، وهي تتوسل لمسؤولي منظمة الهلال الحمر الفلسطيني بإنقاذها من سيارة كانت تتواجد بداخلها مع أقاربها الذين قتلوا جميعهم برصاص الجيش الإسرائيلي.
وقالت هند آنذاك لموظفة الهلال الأحمر وهي تبكي عبر الهاتف المحمول: “أمانة (أرجوك) تعالي خديني”، بعد أن أبلغتها أن الدبابة الإسرائيلية تتحرك بجانبها، لكن طواقم الإسعاف عجزت آنذاك عن الوصول إليها بسبب كثافة النار واستهداف الجيش الإسرائيلي كل ما يتحرك، وظلت الطفلة طوال ثلاث ساعات تخبر طواقم الهلال الأحمر عبر الهاتف بأنها خائفة بين جثث أقاربها في السيارة الذين أعدمهم الجيش الإسرائيلي، ولم تستطع طواقم الإسعاف الوصول إليها إلا بعد نحو 12 يومًا على المكالمة، لتجدها قد فارقت الحياة منذ اليوم الذي أطلقت فيه استغاثتها، فضلًا عن جثماني المسعفين اللذين خرجا لإنقاذها.
“دُفن من دون رأسه”
وعقب معركة طوفان الأقصى في أكتوبر 2023 خرج الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن ليردد أكذوبة الاحتلال بأن “حماس” قامت بتقطيع رؤوس الأطفال، فيما قال البيت الأبيض في تصريح لاحق أن بايدن لم يمتلك الوثائق التي تؤكد صحة تصريحه، بل إنه “نقلها عن نتنياهو”، في حين وثّقت المراكز الحقوقية جثامين مقطعة لأطفا فلسطينيين في عدد من المجازر، لكن بايدن لم يعتبر ذلك أمرًا يؤسف عليه.
حيث أبرز المرصد الأورومتوسطي حقوق الإنسان إفادة المواطن الغزي عبد الحافظ النجار (42 عامًا) والد الطفل أحمد، الذي قطع رأسه وقتل مع ثلاثة من أشقائه ووالدتهم وعدد كبير من الضحايا في مجزرة إسرائيلية استهدفت نازحين في الخيام في منطقة “البركسات” غرب رفح جنوبي القطاع في 26 مايو/أيار الماضي؛ حيث قال عبد الحافظ: “طفلي أحمد كان شكله جميلًا جدًا، عمره عام ونصف، قُطع رأسه في القصف الإسرائيلي، كان رأسه مفصولًا عن جسده.. عندما شاهدته شعرت بالقهر.. لقد دفن بدون رأسه”.
“وها هما ذهبا”
وذكر الأورومتوسطي في تقرير سابق أن طفلين رضيعين هما “وسام” و”نعيم أبو عنزة”، وعمرهما ستة أشهر، استشهدا مع والدهما و11 من أفراد العائلة في غارة نفذها الطيران الإسرائيلي على حي “السلام” في رفح جنوب قطاع غزة في 3 مارس/آذار. وأفادت “رانيا أبو عنزة”، والدة الطفلين، أنها أنجبت الرضيعين بعد عشر سنوات خاضت خلالها محاولات تلقيح عدة وزراعة داخل الرحم، لتحقق حلمها في أن تصبح أمًا، قائلة: “زرعوا لي 3 أجنة، بقي منهم اثنان، وها هما ذهبا.. بعد عشرة أيام من مقتلهما، كانا سيتمان الستة أشهر.. قصفوا الدار، زوجي وأولادي والعائلة قتلت في المجزرة”.
فقدت أطفالها الثلاثة
كما أبرز الأورومتوسطي حالة السيدة “شيماء الغول”، والتي كانت حاملًا في الشهر التاسع عندما تعرض منزلها في مدينة رفح جنوب قطاع غزة للقصف في 12 فبراير/شباط الماضي، ما أدى إلى استشهاد زوجها وابنيها “محمد” و”جنان”، وأصيبت هي بشظية في بطنها وصلت إلى الجنين، وأفادت أن زوجها “عبد الله أبو جزر” كان أعد لها “التمر والحلوى وشنطة الميلاد فرحًا بمولوده المُنتظر قبل أن يُقتل مع طفليه”، وذكرت أنها وضعت طفلًا أسمته عبد الله، تيمنًا باسم والده، لكنه عاش يومًا واحدًا، إذ توفي متأثرًا بإصابته بالشظية، لتفقد أطفالها الثلاثة مع زوجها.
قتلٌ بالحصار
وأشار الأورومتوسطي إلى أن حالات وفاة تسجل يوميًّا في صفوف الأطفال الرضع كنتيجة مباشرة للجرائم التي تأتي ضمن أفعال جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في القطاع، وبخاصة التجويع والتعطيش ومنع وعرقلة إدخال المساعدات الأساسية، كالحليب، والحرمان من الرعاية الصحية، وأغلب هؤلاء لا يسجلون ضمن أعداد الضحايا المعلن عنها من وزارة الصحة الفلسطينية، لعدم وجود آلية محددة لاعتماد هذا النوع من الضحايا.
اتفاق وقف إطلاق النار لم يكن كافيًا في أن يجد الأطفال الفلسطينيون في قطاع غزة سبيلاً للحياة حتى بعد أن لم تعد طائرات الاحتلال تحلق فوق رؤوسهم؛ إذ لا تزال ارتدادات زلزال الحرب تنشر الموت بينهم من كل ناحية، سواء كان بالجوع أو المرض أو البقاء في العراء في هذا البرد الشديد، بعد أن خرق الاحتلال الاتفاق على إدخال الكرفانات المؤقتة لإيواء الغزيين المهدمة بيوتهم، فلا يزال مئات الآلاف بلا مأوى، وتتعاقب المنخفضات الجوية عليهم لتفتك بمن بقوا منهم أحياء، فمنذ ساعاتٍ كتب الصحفي في شمال غزة أنس الشريف، أنه “بسبب الحصار ومنع دخول المنازل المؤقتة، يفارق ثلاثة أطفال من غزة الحياة بسبب البرد والتجمد”.