أخبار حياة – في زاوية بعيدة من أحد مصانع فيتنام، ينهمك عامل في خياطة اللحامات الأخيرة على حقيبة ظهر ثقيلة الاستخدام. بعد شهور، يُشاهد جندي إسرائيلي يعبر شوارع غزة المدمّرة، يحمل على كتفيه الحقيبة نفسها، بينما يحاول الفلسطينيون العودة إلى منازلهم التي صارت أنقاضاً. هكذا تبدأ القصة التي يبدو للوهلة الأولى أنها بلا رابط، قبل أن يكشف تقرير جديد الستار عن سلسلة إمداد تمتد عبر قارات، وتزوّد جيش الاحتلال الإسرائيلي بالملابس والمعدات الخاصة.
خيوط الإبادة تمر من مصانع الألبسة
كشف تقرير نشرته منظمة إعلامية غير ربحية، ونفّذته منظمة “العداد” التابعة لمركز أبحاث الشركات متعددة الجنسيات، كيف تشارك مصانع في الهند وتركيا وفيتنام في تزويد شركات إسرائيلية بمعدات تُستخدم لاحقاً في العمليات العسكرية، ولا سيما في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ويؤكد التقرير أن هذه الشبكة العالمية لا تزوّد فقط الجيش الإسرائيلي بمعداته اللوجستية، بل تساهم – بحسب منظمات حقوقية مثل العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش – في تمكين عمليات قد ترقى إلى جرائم إبادة جماعية، وفق التوصيفات القانونية المعتمدة دولياً.
اعتمدت التحقيقات على تتبّع بيانات جمركية تشمل شحنات ملابس ومعدات عسكرية دخلت إلى إسرائيل. وبين أكتوبر/ تشرين الأول 2023 ومايو/ أيار 2024، تم تسجيل 44 شحنة من عدة ولايات أميركية إلى إسرائيل، من دون الكشف عن هوية الموردين أو المشترين، ما يعكس عمق غموض سلاسل التوريد العالمية. لكن الجولة الثانية من البحث أتت بنتائج أوضح. باستخدام أسماء 15 شركة إسرائيلية مشتبهاً في ارتباطها بالجيش، تمكن الباحثون من ربط سبع شركات بتسعة مورّدين من آسيا، خلال عام كامل حتى يونيو/ حزيران 2024. ومن أبرز الشركات الموردة: أكيرو بروتيك وفيراج سينتكس من الهند، وإم كيه فينا وضوء إلى قمة فينا من فيتنام، و”ضمان كومبوزيت” من تركيا.
أسماء إسرائيلية على خط المواجهة
من جانبها، تلعب شركات إسرائيلية دوراً محورياً في استقبال هذه الشحنات وتوريدها للجيش. منتجات هذه الشركات تشمل الخوذ، والألواح الواقية، والأحزمة، والصدريات التكتيكية، وأغلبها يظهر على جنود في صور ومنشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، كما يشير التقرير. ورغم نفي بعض هذه الشركات لبيع المنتجات بشكل مباشر، أقرّت في رسالة إلكترونية بأنها شركة إسرائيلية تُصنّع للجيش الإسرائيلي وتصدر لجهات أخرى حول العالم، مؤكدة أن بعض الشحنات الواردة في التقرير كانت “لأغراض البحث والتطوير فقط”.
دور مصانع الألبسة في الحرب
ترى حملة “الملابس النظيفة”، وهي الجهة التي كلفت بإعداد التقرير، أن ما كشف عنه لا يمثل سوى رأس جبل الجليد. فالتقرير لم يشمل سلاسل الإمداد غير المباشرة التي تشمل منتجي الخامات، أو مصنّعي الأزرار والسحابات، وهي مكونات لا غنى عنها في المعدات العسكرية. ألينا إيفانوفا، مسؤولة الحملات في منظمة “العمل خلف الملصق”، صرّحت للمجلة بأن “أكثر من قطاع متورط، وأكثر من صناعة تستفيد من هذا العنف”. وتضيف أن معرفة الشركات المعنية أمر أساسي في ما يخص حملات المقاطعة.
تركز الاحتجاجات المناهضة للحرب عادة على الأسلحة، لكن الناشطين الذين يعارضون حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة وسّعوا نطاق استهدافهم ليشمل المصانع والمرافئ والشركات التي تسهم في تجهيز الجيش الإسرائيلي بمعدات ميدانية، من بينها الملابس، الأحذية، الخوذ.
“علي”، وهو اسم مستعار لممثل “عمال من أجل فلسطين” (تحالف يضم أكثر من 30 نقابة عمالية فلسطينية) قال: “آلة الحرب الإسرائيلية تعتمد على مكوّنات عديدة، بعضها واضح كالقنابل، وبعضها خفي كالأحذية والخوذ”. وأضاف: “سلاسل التوريد المعقدة تمر عبر دول عدة، ما يدفعنا إلى البحث عن نقاط خنق يمكن تعطيلها”.
عمّال في قلب التناقض
يطرح البعض سؤالاً بسيطاً: لماذا لا يرفض العمّال في هذه المصانع تصنيع هذه المنتجات؟ لكن الجواب معقّد، كما يوضح التقرير. فعمال قطاع الملابس من الفئات الأكثر هشاشة، وغالباً ما يعملون بأجور زهيدة وفي ظروف غير إنسانية، ما يجعل من الاحتجاج خياراً شبه مستحيل.
ومن هنا، ترى منظمات حقوقية مثل “نشطاء مناهضون لمصانع الاستغلال ضد الفصل العنصري” أن المطلوب هو بناء تضامن عالمي وتحركات مدروسة لا تُحمّل العامل البسيط مسؤولية منظومة كاملة.
وفي هذا السياق، عبّر والتون بانتلاند، مدير الحملات في الاتحاد العالمي للصناعات، عن أهمية توثيق سلاسل التوريد بدقة. وقال: “معرفة مواقع التصنيع ضرورية لتوجيه الحملات ضد الشركات المتورطة، خصوصاً من قبل ناشطي حركة المقاطعة الثقافية والاقتصادية لإسرائيل”.
أزياء المقاومة… من بيانات إلى أفعال
ما تراه منظمات مثل “العمل خلف الملصق” هو فرصة لتطوير العمل التضامني من مستوى البيانات إلى مستوى الأفعال. منظمات من لوس أنجليس إلى بريطانيا عبّرت عن تضامنها مع فلسطين، لكنها اليوم مدعوة إلى العمل وفق نتائج التحقيق الجديد. “بإمكان الناشطين توزيع منشورات داخل المصانع، أو الضغط على الموردين لعدم تجديد العقود، أو حث الحكومات على فرض حظر على المعدات العسكرية”، وفق “علي”، الذي أشار إلى أن دولاً مثل الهند وفيتنام ما زالت تحتفظ بعلاقات تجارية مع إسرائيل رغم التصريحات الرسمية المناهضة للحرب.