إيران على الطاولة.. لا مفر من المفاوضات

د.عامر سبايلة
فاجأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضيفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بإعلانه عن وجود محادثات مباشرة مع طهران في عُمان، في وقتٍ كان فيه نتنياهو يعوّل على خيار التصعيد العسكري السريع دون الالتفات لأي مسار دبلوماسي. لكن ترامب، وبعد أسابيع من التهديد والتحشيد العسكري، وضع خيار التوصل إلى اتفاق مع إيران على طاولة المسار السريع، كخطوة غير متوقعة.
ورغم انسجام نتنياهو مع الموقف الأميركي من حيث تأكيده على ضرورة أن تتضمن المفاوضات تنازلات إيرانية كبيرة، تُقارن بما قدمه النظام الليبي سابقاً من خلال دخول المفتشين الدوليين وتفكيك المنشآت، إلا أنه شدد على أن الخيار العسكري سيبقى الأقرب للواقع، لقناعته بأن إيران لن تقدم تنازلات حقيقية.
وفي الحديث عن التنازلات، لا بد من قراءة المشهد الإقليمي بشكل أعمق، والنظر إلى ما يحدث في المنطقة باعتباره تحولات حقيقية تفرض نفسها على طهران وتدفعها إلى الجلوس مجبرة على طاولة المفاوضات. فمن اغتيال قاسم سليماني، إلى الوفاة الغامضة للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، وصولاً إلى التغيرات الجوهرية في المشهد الإقليمي، جميعها عناصر انعكست بشكل مباشر على موازين القوى داخل إيران.
لكن، لماذا يجب على طهران أن تعتبر التحرك العسكري الأميركي هذه المرة تهديداً حقيقياً؟ ببساطة، لأن توقيت هذا التحرك يأتي بعد أشهر من العمل المنهجي على تجريد إيران من أدوات التهديد التي صنعتها في المنطقة، خاصة تلك التي تتيح لها نقل الأزمة الأمنية إلى الداخل الإسرائيلي، في إطار إستراتيجيتها الأشهر “وحدة الساحات”. فقد تم تفكيك الساحات واحدة تلو الأخرى، وإبطال مفعول التهديدات، وتفجير المنظومات من داخلها، سواء في غزة من خلال استهداف حماس والجهاد، أو في الضفة الغربية عبر تفكيك بعض الخلايا والتنظيمات، مروراً بركيزة الإستراتيجية الإيرانية: حزب الله في لبنان، وصولاً إلى تقويض النظام في سورية.
كل ذلك يعني أن ضرب إيران أصبح خياراً ممكناً، لكن بقيت جبهتان أساسيتان تحتاجان إلى تحييد: اليمن والعراق. وهو ما يتجلّى بوضوح حالياً من خلال دخول الولايات المتحدة بقوة على خط إنهاء ملف الحوثيين في اليمن، والتهديد المباشر للفصائل العراقية، لا سيما مع تصاعد الحديث عن نقل إيران لأسلحة استراتيجية إلى الأراضي العراقية تمهيداً لاستخدامها في حال تعرضها لهجوم.
صحيح أن إيران كانت قد امتنعت عن الدخول في مفاوضات مع إدارة ترامب، وظهر ذلك في التصريحات المتضاربة للمسؤولين الإيرانيين وعلى رأسهم المرشد الأعلى علي خامنئي، إلا أن هذا الامتناع سرعان ما تبدد، مع بروز حديث عن مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة، لكنها في نهاية المطاف مفاوضات على المقاس “الترامبي”.
الكثير من الأطراف داخل إيران تدرك تماماً أن عامل الوقت لم يعد في صالح طهران، وأن المعادلة الإقليمية لم تعد تصب في مصلحة التيار المتشدد، ممثلاً بالحرس الثوري، الذي رسّخ نفوذه في الداخل الإيراني من خلال دوره الإقليمي وسيطرته الواسعة في الجغرافيا الإقليمية. لكن الخسارات المتتالية والتحولات الأخيرة توحي بوضوح أن هذا الطرف بات الحلقة الأضعف في معادلة التفاوض مع واشنطن، ما يعني أن استراتيجية الضغط الأميركية نجحت في نقل الأزمة إلى الداخل الإيراني، عبر أزمات اقتصادية واجتماعية عنوانها العقوبات والضغوط، وأزمات سياسية داخلية تمثلت في فقدان النفوذ الإقليمي والحاجة إلى التكيف مع واقع جديد يتطلب تغييراً في السياسات والشعارات والوجوه.
الخيار العسكري مع إيران يظل مطروحاً، خاصة إذا تعلّق الأمر بضرب التيار المتشدد بغية الإجهاز عليه وفرض التغيير على طهران بأسلوب الإملاء لا الحوار. فالحشد العسكري الأميركي غير المسبوق في المنطقة لم يُرسل برسائل حسن نية، بل جاء تحت عنوان التهديد القابل للتنفيذ. كما أن دعوة إيران للمفاوضات لم تأتِ عبر القنوات الدبلوماسية، بل أتت محمولة على رسائل التهديد العلنية التي أطلقها الرئيس ترامب.
من هنا، فإن هذه المفاوضات يجب أن تُفهم على أنها مفاوضات الفرصة الأخيرة، والأهم من ذلك أنها مفاوضات من أجل استحقاق التغيير في الداخل الإيراني.