التحول الأوروبي في الشرق الأوسط

مالك العثامنة
تعيش أوروبا لحظة تحول جيوستراتيجي حادة، تُفرض عليها من اضطراب علاقتها التاريخية مع الولايات المتحدة، ومن تصاعد التهديدات الآتية من الشرق، خصوصاً روسيا. هذا الواقع الجديد يدفع الأوروبيين إلى إعادة تعريف دورهم في العالم، من خلال تعزيز أدوات القوة الصلبة، وتقليص الاعتماد على واشنطن، من دون أن يكون ذلك سهلاً أو سريعاً.
لكن الطريق إلى “استقلال استراتيجي” أوروبي، كما تطمح له بروكسل وباريس وبرلين، طويل ويحتاج إلى بنية تحتية عسكرية وصناعية متينة، وتوسيع الجيوش وتحديث منظومات التسلح.
وفي المقابل، تقتطع هذه الخطط جزءاً كبيراً من ميزانيات الدول الأوروبية، ما يؤدي إلى تقليص متسارع في المساعدات الاقتصادية الخارجية، وهو ما يضعف النفوذ الأوروبي الناعم، خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
أوروبا التي كانت تُراهن لعقود على نفوذها المالي والدبلوماسي، تجد نفسها اليوم في حاجة إلى إعادة ترتيب أولوياتها.
هي -بطبيعة الحال الراهن- لا تستطيع أن تُنفق على سورية والأردن ولبنان ومصر وغزة كما كانت تفعل سابقاً، وهي تدرك أن دول الخليج وتركيا والصين باتت أكثر حضوراً في ملء هذا الفراغ.
في الملف الإيراني، تبدو أوروبا حذرة. فهي تتفق مع واشنطن ودول الخليج على ضرورة منع طهران من امتلاك سلاح نووي، لكنها قلقة من تقارب أميركي-روسي مفترض قد يهمش دورها.
وإيران، بدورها، وقد سلّحت روسيا بمسيّرات تستهدف أوكرانيا، باتت في قلب المعادلة الأمنية الأوروبية، وهذا يُرغم بروكسل على التنسيق مع الرياض وأبوظبي، من دون الانخراط في أي مواجهة عسكرية مباشرة، خصوصاً في ظل الحاجة الأوروبية لدعم ترامب في ملف أوكرانيا.
في سورية، تتباين الرؤى الأوروبية عن الأميركية. فبينما أعلن ترمب أن “سورية ليست مشكلة أميركا”، ورفض تخفيف العقوبات أو تقديم مساعدات في مؤتمر بروكسل للمانحين، استمرت العواصم الأوروبية بتقديم المليارات، وبدأت بإعادة فتح قنوات اتصال مع دمشق، بدافع منع موجة لجوء جديدة أكثر مما هو حرص على “إعادة الإعمار” بحد ذاتها.
أما في غزة، حيث قلب الحدث الأكثر سخونة، فقد رفضت أوروبا خطة ترامب لترحيل السكان وتسليم الإدارة لمستثمرين أميركيين، وفضلت دعم المبادرة المصرية بإعادة القطاع إلى السلطة الفلسطينية.
لكن هذا لا يخفي أن أوروبا مجبرة على الاختيار بين ملفات كثيرة بموارد أقل، ما يعني أولويات متغيرة من دولة لأخرى، وبينما تتراجع شهية واشنطن للمنطقة، وتُظهر إسرائيل نية لضم أجزاء من غزة والضفة، تزداد مؤشرات التوتر بين تل أبيب وبعض العواصم الأوروبية، خصوصاً في ظل تصاعد الدعوات داخل أوروبا لفرض إجراءات اقتصادية على إسرائيل.
واليوم، تستعد أوروبا لتسويق صناعاتها العسكرية الجديدة في الشرق الأوسط، حتى لو اصطدمت بحسابات إسرائيل وأميركا، إنها أوروبا جديدة، بصيغة أقل رومانسية، وأكثر براغماتية، تتحرك بين ضرورات الردع، ومحدودية الموارد، وشهوة النفوذ، ومواجهة انقساماتها الحادة بإعادة ترتيب مصالح تجمع ولا تفرق في داخل الاتحاد الهش.