untitled77777777777777777

في غزة .. معركة الحصول على الخبز

أخبار حياة – في غزة، لم يعد الخبز مجرد طعام يسد الجوع، بل تحوّل إلى حلم يومي، ومعركة مستمرة في وجه الحصار، والقصف، والفقر، وانهيار مقومات الحياة.

في شوارع القطاع المحاصر منذ سنوات، بات الحصول على رغيف خبز يتطلب من الغزيّين جهداً مضاعفاً، ومواجهة يومية مع النقص، والغلاء، والخوف، ومشاهد الوجع التي باتت مألوفة.

مخابز مغلقة.. ومخزون منعدم

أواخر مارس 2025، أُسدلت الستائر على آخر ما تبقى من المخابز المدعومة من برنامج الغذاء العالمي في غزة، بعد نفاد الطحين والوقود، لتُغلق أبوابها أمام عشرات الآلاف من العائلات التي كانت تعتمد عليها كليًا في تأمين الخبز بأسعار رمزية.

إغلاق هذه المخابز لم يكن مجرد خبر عابر، بل كان ناقوس خطر حقيقي دقّ أبواب كل منزل، ليعلن أن الجوع بات أقرب مما كان يُتوقع، وأن أيامًا أشد قسوة قد بدأت.

محفوظ عجور، صاحب “مخابز كامل عجور”، يصف الحال قائلًا: “كنا ننتج الخبز يوميًا بدعم البرنامج، ونبيعه بأسعار رمزية تساعد الناس على تحمّل الجوع، الآن، لا دقيق ولا وقود ولا حتى أمل قريب الناس تبحث عن حفنة طحين بأي ثمن، والمخبز الذي كان يضم أكثر من 160 عاملًا أصبح مهجورًا”.

من فرن حديث إلى موقد حطب

في حي الشجاعية المدمر، تجلس سمر ياسين، 31 عامًا، أمام موقد طيني بدائي، تنفخ في النار، وتنتظر أن تنضج الأرغفة التي عجنتها بيديها.

فقدت زوجها قبل عامين، واليوم تحاول وحدها تأمين طعام لطفليها.

تقول: “كان الخبز متوفرًا من المخبز بسعر بسيط، أما اليوم، فأنا أقضي ساعات طويلة أبحث عن نايلون أو خشب لإشعال النار، ابني الصغير يجمع الحطب من تحت الأنقاض، وأخاف عليه من القصف… لكن ماذا أفعل؟ الخبز صار حياتنا”.

مشهد سمر بات متكررًا في غزة؛ نساء يخبزن فوق النار، أطفال يجمعون الحطب، وأمهات يقفن في طوابير المياه والطحين، في وقت أصبح فيه إنتاج الرغيف اليومي تحديًا كبيرًا في ظل شح المواد الأولية.

الخبز البديل.. وصفة للبقاء

ومع انعدام الدقيق، لجأ البعض لصناعة خبز “بديل” من العدس المطحون، أو الشعير، أو الحبوب المطحونة يدويًا.

هذه الحلول البدائية، رغم صعوبتها، هي محاولات للبقاء في وجه الجوع، لكنها لا تغني عن رغيف الخبز الحقيقي الذي صار من الندرة بمكان، حتى أنه يُباع أحيانًا بأسعار خيالية في السوق السوداء، تفوق قدرة معظم العائلات.

مؤشرات خطيرة

وقال المرصد الأورومتوسطي إنّ طواقمه العاملة في قطاع غزة بدأت برصد مؤشرات خطيرة تنذر بدخول السكان حالة من انعدام الأمن الغذائي الحاد يوشك أن ينتقل إلى مستوى المجاعة، إذ تسبّب الحصار الإسرائيلي بنقص حاد ومستمر في الغذاء الأساسي الضروري للبقاء على قيد الحياة، بما في ذلك الحبوب والبروتينات والدهون، إلى جانب تعطيل وتدمير ما تبقى من البنية التحتية الزراعية والغذائية من خلال القصف والاحتلال العسكري المباشر، علاوة على اضطرار السكان لبيع بعض من ممتلكاتهم الأساسية من أجل توفير الغذاء، ما يشي ببدء انهيار آليات التكيّف لديهم.

وذكر أنّ العائلات في قطاع غزة اضطرت إلى تقليص الوجبات اليومية للحد الأدنى، ما أدّى إلى نقص واضح في أوزان السكان الذين بات معظمهم يعتمد على نحو شبه كامل على المعلّبات القليلة المتوفرة، في ظل غياب الغذاء الطازج والمغذي، واعتماد العائلات في توفير وجبة الطعام اليومية على التكايا الخيرية، التي صعّد الجيش الإسرائيلي من وتيرة استهدافها بالقصف الجوي في الأسابيع الأخيرة، في إصرار على حرمان السكّان من حقهم حتى في الحصول على الحد الأدنى من الطعام.

أزمة مركبة.. وجوع يفتك بالأطفال

الجوع في غزة ليس مجرد عارض مؤقت، بل نتيجة مباشرة لأزمة مركبة تعصف بالقطاع؛ نقص في الغذاء، انهيار في الدخل، تعطل شبكات المياه والكهرباء، وتدهور القطاع الصحي.

وأشار المرصد الأورمتوسطي إلى أنّ أكثر من مليون طفل في قطاع غزة يعانون من سوء تغذية حاد، في ظل انعدام الغذاء، وانهيار شبه تام للبنية التحتية الصحية، ونقص حاد في المياه الصالحة للشرب، وحرمان كامل من أبسط شروط الحياة الكريمة.

ووفق المكتب الإعلامي الحكومي؛ فإن أكثر من 50 شخصًا – معظمهم أطفال – فارقوا الحياة نتيجة الجوع والجفاف خلال الأشهر الأخيرة.

من معركة غذاء إلى مأساة مجتمعية

ما يحدث في غزة اليوم لا يمكن اختزاله في “نقص خبز”، فالرغيف الذي كان أسهل أشكال البقاء، صار صورة مصغرة عن معاناة أوسع، تشمل الفقر والبطالة والانهيار المجتمعي.

يقول عجور: “هذه ليست فقط أزمة دقيق، بل أزمة مجتمع ينهار، المخابز كانت توفّر آلاف الوظائف، واليوم أغلقنا جميعًا، وتركنا خلفنا جياعًا وبطالة ومجهولًا مخيفًا.”

رسالة من تحت الركام

ورغم كل هذا، لا يزال الغزيون يتشبثون بالحياة. يحاولون بوسائل بدائية أن يواجهوا العجز، يطهون الخبز بالنار والدخان، ويبتكرون طرقًا للبقاء، فيما العالم يراقب بصمت.
في غزة، صار الخبز معركة يومية، فيها من الصبر أكثر مما فيها من الطحين، ومن الأمل أكثر مما فيها من الوقود.

هي معركة من نوع آخر، يخوضها شعب قرر أن يعيش، رغم أنف الحصار، ورغماً عن الجوع.
قنابل من واشنطن.