بقلم: أ.د. خالد واصف الوزني
تقول بعض الإحصاءات إنَّ نسبة سيطرة الذكاء الاصطناعي على قطاع الأعمال قد تتجاوز قريباً 70%، في حين تصل نسبة الحاجة إلى تطوير مهارات العمالة القائمة لغايات التواؤم مع تطورات الذكاء الاصطناعي بحلول العام 2030 إلى ما يزيد على 40%، ومن يتخلَّف عن الركب يفقد وظيفته لشخص أكثر تأهيلاً، أو للروبوتات. أمّا القوى العاملة القادمة والمستقبلية فإنَّ 100% منها ستكون بحاجة إلى مهارات رقمية متنوّعة لدخول سوق العمل، وبخلاف ذلك تتحوَّل إلى أجيال انتظار، أو وقود استقطاب لكافة الجهات السياسية والاجتماعية والدينية والمتطرفة. الاقتصادات الناشئة قد تواجه الكثير من التحديات إن لم تستثمر في الشباب وطاقاتهم، لغايات الإفادة من الفُرص التي يولِّدها الذكاء الاصطناعي؛ فهم الأقدر على فهم التعامل مع الرقمنة، وقبول الآلة كشريك في العمل، والتعاون معها كزميل عمل، فهم منذ طفولتهم أسيرو الأجهزة الإلكترونية والألعاب الرقمية واللقاءات عن بُعد عبر فضاء الرقمنة
هذه الأسواق تواجه خلال السنوات العشر القادمة ما بين 1.2 و1.4 مليار قادم إلى سوق العمل، في حين إنَّ الإحصاءات تقول إنَّ الوظائف التقليدية التي نعرفها قد تستوعب أو تمتص أقل من 40% من تلك القوى البشرية القادمة إلى سوق العمل. والحل الوحيد الحصري لاستيعاب الأجيال في الدول الناشئة هو تأهيلها منذ السنوات الأولى للتعلُّم لتكون الوقود القادم لقيادة التحوُّلات الرقمية، بل والريادة والابتكار والابداع في توفير متطلبات وأذواق المستهلكين القائمة والقادمين للأسواق محلياً وعالمياً.
العبء الوحيد هو على الحكومات المنشغلة بالضرائب، والتعرفة الترامبية، والحروب التجارية والتقليدية، والفرط صاروخية، أن تنشغل بالشباب وتأهيلهم قبل أن تحوِّلهم من فرصة سكانية، إلى أزمة سكانية، وتحدٍّ عميق على التنمية والسياسة والحياة الاجتماعية في الدول الناشئة. والمتطلبات سهلة وبسيطة ومباشرة، ويأتي على رأسها إعادة النظر في النظام التعليمي من مراحله التمهيدية إلى المستوى الجامعي لتكون أكثر اعتماداً على التفكير الناقد، والتَفَكُّر والمعرفة، وبعيدة كل البعد عن التلقين؛ فالتلقين لا يكون إلا للموتى، أمّا الأجيال القادمة فلا بدَّ لها من تأهيل علمي ومعرفي وفكري يتجاوز المكان والزمان والعصر الحالي.
فهم أحوج ما يكونون إلى علوم المعرفة، ومنهجية استخدام العقل في الإبداع والريادة، وطرق القفز خارج الصندوق نحو فضاء الابتكار والتطور. وهم مؤهلون لذلك بفعل تركيبتهم العمرية، وتعرُّضهم المباشر للأدوات والوسائل والوسائط الرقمية المفتوحة.
ولعلَّ من المتطلبات أيضاً التخلِّي تماماً عن فكر وزارة العمل، القائمة على تصاريح العمل والعمالة الوافدة، أكثر من قيامها بمهام تأهيل الموارد البشرية وبناء قدراتها. فالمنافسة على سوق العمل المحلي لم تعد ولن تعد عبر وظائف من ذات البلاد، بل إنَّ ما يزيد على 45% من المنافسة ستكون عبر فضاء العمل عن بُعد، وفضاء العمل من كل مكان في العالم؛ فالعالم اليوم يقوم ليس فقط على المواطن العالمي بل أيضاً على الموظف العالميGlobal Employee، وهو سلاح ذو حدين، فإمّا أن يكون ذلك سوقاً لتصريف المهارات الوطنية حول العالم دون هجرتها وتركها لبلادها وثقافتها ومجتمعها، وإمّا أن يتمَّ اقتناص فرص العمل من عمالة عالمية تستطيع أن تقدِّم نصف الوظائف المتاحة في أيِّ دولة عن بُعد. المطلوب اليوم ومستقبلاً التحوُّل نحو فكر بناء مهارات الموارد البشرية، والبعد كلَّ البعد عن الفكر التقليدي لدور وزارة العمل، وهو فكر يمكن أن تقوم به مؤسسات وزارة الداخلية ووحدات الحكم المحلي في المحافظات.
الدول الناشئة تحتاج اليوم إلى أن تُنشِئ هيئة وطنية لتنمية وبناء قدرات ذكية للموارد البشرية، بديلة لوزارات العمل، يتم إدارتها بالشراكة مع القطاع الخاص، المعني بشكل أساسي بالصناعة وتقنيات المعلومات والرقمنة، ومؤسسات التعليم المهني والتقني، ومؤسَّسات الأمن السيبراني، والحماية السيبرانية، وأن تتمَّ إدارة هذه الهيئة وفق استراتيجية وطنية معنية ببناء مهارات الموارد البشرية، ووفق أسس مهنية، وبمستوى صفر من البيروقراطية الحكومية، وبعقلية تستشرف المستقبل، وبعيداً عن الأيدي المرتجفة في الإدارات العامة، مع مراعات النزاهة والشفافية والعدالة في كافة عملياتها. الدول الناشئة والنامية بحاجة إلى المتطلبين السابقين: في التعليم وسوق العمل، منذ الأمس، وكل من يؤخِّر خطواته أكثر من ذلك سيتحمَّل عواقب وخيمة لا قِبَلَ له بها اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً.
[email protected]
أ.د. خالد واصف الوزني
أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية