كيف أنقذت زيادة عدد «المذعورين» الأسواق العالمية من الانهيار؟

أخبار حياة – قبل شهر تقريباً، فاجأنا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بمصطلح جديد لوصف منتقدي سياساته المتعلقة بالتعريفات الجمركية، وهو «المذعورون»
لكن المفارقة العجيبة تكمن في أن ترامب نفسه، وهو مبتكر هذا المصطلح، انضم خلال أسبوع واحد فقط إلى صفوف هؤلاء «المذعورين» أو ما يمكن تسميته «حزب المذعورين».
فبعد يوم واحد فقط من الاضطراب الذي شهدته أسواق السندات، تحول خطابه الذي كان يُفترض أن يكون بمثابة «يوم تحرير» إلى ما يمكن وصفه بـ«ساحة القصاص العادل».
غير أن السؤال الجوهري الذي طرحه الرئيس الأمريكي يبقى وثيق الصلة بالواقع الراهن: هل بالغت الأسواق المالية والسياسيون ووسائل الإعلام في ردة فعلها تجاه إعلانات التعريفات الجمركية؟ وهل أصاب الهلع فعلاً المتنبئين بالكوارث على مدار الساعة في الأسواق المالية والإعلام، إلى جانب الطبقة السياسية التي تشير بلا كلل إلى نذر نهاية العالم؟
إن آثار التعريفات الجمركية، ولا سيما المخاوف من تصعيد غير محسوب لها، تمثل في جوهرها تهديداً حقيقياً للاقتصاد العالمي، فلو اندلعت حرب تجارية، فقد يتحول يوم التحرير المزعوم إلى بداية عقد كامل أو أكثر من الجمود في حركة التجارة العالمية والنمو الاقتصادي.
ويذكرنا التاريخ أن مسار التجارة العالمية قد اتجه بشكل متكرر نحو فترات من الانكماش والأزمات.
وتبرز السجلات التاريخية تكرار صدمات التعريفات الجمركية الأمريكية بشكل دوري كل نصف قرن تقريباً على مدار 250 عاماً مضت: 1789، 1828، 1890، 1930، 1971، حيث تركت كل منها ندوباً اقتصادية عميقة فقد تسببت الحالة قبل الأخيرة (تعريفات سموت-هاولي) في تعميق الكساد الكبير، وفي الحالة الأخيرة (صدمة نيكسون) أطلقت شرارة التضخم الكبير، وكلاهما بات محفوراً في الذاكرة الاقتصادية لأسباب سلبية لا تُنسى.
وبعد انقضاء نصف قرن، ومع تضخم حجم التجارة العالمية وتشابك خيوطها بصورة غير مسبوقة، فإن الآثار السلبية الناجمة عن صدمة تعريفات 2025 قد تكون أكثر عمقاً وإيلاماً، وهو ما تعكسه بوضوح التوقعات الاقتصادية المتشائمة التي صدرت الشهر الماضي، حيث باتت احتمالية دخول الاقتصاد الأمريكي في دوامة الركود تعادل احتمالية النجاة منه، فيما شهدت الأسواق المالية خسائر فادحة تجاوزت 6 تريليونات دولار من القيمة السوقية للأسهم العالمية، وارتفعت مؤشرات التقلب في الأسواق إلى ثلاثة أضعاف مستوياتها المعتادة.
في الجانب المقابل، لم يعد ثمة مجال للشك في أن شبكة سلاسل التوريد العالمية المتشابكة يستحيل تفكيكها من دون سنوات من إعادة الهيكلة باهظة التكاليف، حيث يشكل هذا الترابط العميق للاقتصادات العالمية، والتكلفة الفادحة لانهياره، حصناً منيعاً يحول دون التمادي في سياسات التعريفات الجمركية.
وفي هذا السياق، تفرض الأسواق المالية بحساسيتها المفرطة حماية مضاعفة، فهي تختصر الزمن وتضخم التكاليف الاقتصادية، لتعمل بمثابة آلية ردع فورية تكبح جماح السياسيين الذين يدّعون قدرتهم على تحمل الآلام الاقتصادية قصيرة المدى، ما يجعل التراجع والاستسلام للواقع أسرع بكثير مما كان عليه الحال في التجارب السابقة، فبينما استمرت تداعيات تعريفات سموت-هاولي أربع سنوات كاملة، واستمرت تأثيرات تعريفات نيكسون نحو أربعة أشهر، لم تصمد أشد التعريفات التي فرضها ترامب سوى أسبوع واحد بالكاد.
وقد تعود موجة التعريفات للتصاعد مرة أخرى، إلا أنه من لُدغ من التجربة الأولى سيتوخى الحذر ألف مرة، فالأحداث الأخيرة خلفت رئيساً أمريكياً مثخناً بالندوب النفسية وشديد الحساسية للاهتزازات الاقتصادية، شأنه شأن الشركات والأسواق المالية التي سعى للسيطرة عليها، وبينما دفع الغرور السياسي نحو طفرة التعريفات الأمريكية، فإن غريزة البقاء والحفاظ على المكتسبات ستكون سبباً حتمياً في تراجعها.
وعلى الرغم من كل الخطاب المتصاعد عن نظام عالمي جديد، فإن قوى العودة إلى الوسطية العالمية قد تكون أشد قوة من أي وقت مضى.
ونتذكر أنه بعد الأزمة المالية العالمية، توقع المراقبون ظهور نظام مالي عالمي جديد، لكن بعد عشرين عاماً، لم نشهد سوى تغييرات محدودة في اتجاهات التدفقات المالية دون حدوث انقلاب جذري، وقد تسلك التجارة العالمية المسار نفسه، بل وتخرج أكثر قوة من رحم هذه الأزمة، وربما تتقدم الصين كحامية غير متوقعة للنظام التجاري العالمي.
وفي خضم ذلك، وبرغم مظاهر الاستياء المعلنة، شكّل الشهر الماضي هدية سياسية ثمينة للعديد من قادة العالم.
لكن من اللافت للنظر، أنه باستثناء الصين، فإن التصعيد الذي أعلنه معظم القادة العالميين بنبرة جدية ظل حتى الآن خطابياً أكثر منه فعلياً، وقد شهدنا شهراً من التراشق الكلامي المتبادل عوضاً عن فرض تعريفات جمركية فعلية، وطالما بقيت قوى التوازن والحفاظ على المصالح الذاتية راسخة، فمن المرجح استمرار هذا النمط.
إن عصراً من تراجع العولمة يظل احتمالاً وارداً، وقد تشكل تعريفات ترامب بداية فصل جديد في مسيرة التجارة العالمية، لكن الاحتمال الأرجح أن ينحني قوس التاريخ مجدداً صوب الانفتاح، مع بقاء الأحداث الأخيرة مجرد حواشٍ وليست عناوين رئيسية، فما شهدناه أقرب إلى نوبة هلع عابرة وليس سكتة قلبية للاقتصاد العالمي.
وتحمل نوبة الهلع هذه في طياتها عناصر التعافي الذاتي، وفي عصر يعج بالقلق وفقدان البوصلة، قد يكون صعود «المذعورين» هو طوق النجاة الذي يحمينا من ذواتنا.