صرخات الطحين…أجساد نحيلة تصيح في وجه المجاعة والصمت

أخبار حياة – في مشهد يختصر الحكاية كلها، يتزاحم عشرات النساء والأطفال في مواصي خان يونس أمام تكية خيرية بدائية، يرفعون أواني فارغة وأعينهم معلقة على البخار المتصاعد من قدرٍ يغلي بالحساء، كأنه القدر الأخير في هذه البلاد الجائعة.
أطفال بأجساد تكاد لا تُرى، ونساء بعيون مجروحة من الذل، يصطفّون في صفوف طويلة، لا تنكسر إلا بصراخ طفل أو انهيار أم، من كثرة الصراخ. الطابور ليس لشراء سلعة فاخرة، ولا لنيل فرصة عمل، بل للحصول على صحن عدس، قد لا يكفي طفلًا واحدًا، لكنه يُقسم على العائلة كلها.

صيحات الجوع

طفلة صغيرة، لا يتجاوز عمرها الست سنوات، تدعى «ميساء» تمد يدها الصغيرة بإناء من الألومنيوم، عفا عليه الزمن، وتناشد الطباخ باكية: «عم.. يا عم». عيناها الكبيرتان تشعان رجاءً، وصوتها المرتجف يبعث في الروح قشعريرة من الخجل الإنساني.
خلف ميساء، تقف سيدة تُدعى «أم حنين»، تحمل صحنا معدنيًا وتبكي بحرقة: «من أجل الله.. تأخذ صحني.. أريد أن أرجع لأولادي بالطعام.. جوعانين».
الجموع تتراكم، وتكبر معها ملامح الانكسار. صبية في العاشرة تسند أخاها الأصغر على كتفها، بينما تمسك بيدها طبقًا فارغًا الأخرى وبطنها الذي يصدر صوتًا لا يُسمع، لكنه يهز ضمير كل من له قلب. «أريد فقط لقمة واحدة» قالتها من دون أن تنطقها، يكفي أن تنظر في وجهها لتسمعها تصرخ من دون صوت.
عجز المتطوعين في التكية لا يقل قسوة عن جوع المنتظرين. إناء الحساء الذي يغرفون منه لا يكفي سوى لعشرات، بينما المئات ينتظرون. كل مغرفة تُصب في صحن، تُحدث موجة من التوتر والصياح بين الواقفين. بعض الأمهات يحاولن التقدم، يرفعن صوتهن: «أطفالي لم يأكلوا منذ يومين»، بينما يُضطر المتطوعون للاعتذار والقول: «انتهى الطعام».
هنا تبدأ موجة البكاء الجماعي.

نساء ينحنين على الأرض من شدة الذل، وأطفال يتبادلون النظرات التي لا تشبه أعمارهم.
هذا المشهد ليس مسرحيًا ولا من رواية خيالية، بل هو يومٌ عادي في غزة التي يُحاصرها الاحتلال منذ 660 يومًا، ويغلق المعابر أمام المساعدات الإنسانية والطبية والغذائية. في هذا المكان، لا يعلو صوت على صوت الجوع، ولا تفوح رائحة إلا من مرق البصل.

الموت الجائع

تجاوزت غزة عتبة المجاعة إلى مرحلة «الموت الجائع»، حيث لم تعد الحاجة لطعام كافية، بل باتت مسألة الحياة أو الموت. كل يوم يتصاعد فيه دخان التكايا، يتبعه دخان آخر أكثر قسوة، هو دخان الغضب والقهر.

تجويع غزة لم يعد مسألة حرب، بل سياسة مُمنهجة. الاحتلال الذي يمنع دخول المواد الغذائية، ويستهدف مراكز التوزيع، ويراقب حركة الشاحنات، ويفرض وقائع على الأرض، أشد قسوة من أي حصار تاريخي. الجوع في غزة ليس نتيجة كارثة طبيعية، بل عقوبة جماعية تُنفّذ تحت سمع كل العالم.

Exit mobile version