الهرم المقلوب للتمكين المؤسسي

سامح المحاريق

بعد أفول حقبة الاستعمار المباشر أخذت المنظمات الدولية الناشئة تتحدث عن التنمية في دول العالم الثالث، واندفعت بفكرة النجاح الكبير الذي حققته خطة مارشال في النهوض بأوروبا من جديد بعد الحرب العالمية الثانية، وتحاول توظيف نفس المعطيات والأفكار في تحقيق التنمية مغفلة حقيقة مهمة وهي أن أبناء الدول التي وصفت بالمتخلفة، ثم تأدباً وتلطيفاً، بالنامية، لم يتمكنوا من التعبير عن احتياجاتهم الحقيقية، ولا أتيحت لهم الفرصة من أجل النقد البناء، وبذلك، مضت معظم جهود التنمية في غير مسارها الصحيح، وكانت نتائجها مخيبة، وفي أفضل الأحوال متواضعة.

من الأجيال المبكرة التي نقدت مفاهيم التنمية، وقدمت نظريات مختلفة، أتى الدكتور محبوب الحق الذي تولى منصب وزير المالية في باكستان 1985 -1988 بعد العديد من المناصب في بلاده والمنظمات الدولية، وكانت رؤيته للتنمية تقوم على أربعة أعمدة، الإنتاجية على المستوى الاقتصادي، العدالة في المجتمع، الاستدامة في البيئة، وأخيراً التمكين للمؤسسات، وهذه النظرية التي تبدو على قدر كبير من الأهمية والمنطقية، لم تمكن محبوب الحق نفسه من إحداث الأثر الملموس أُناء عمله مع الحكومة في باكستان، وهو ما فسره بوجود عقلية كاملة داخل منظومة الحكم يحملها الوزراء والمشرعون والتنفيذيون تحول دون إحداث التغيير المنشود، الأمر الذي دفعه لاحقاً إلى نبرة أعلى من النقد تجاه بلاده متحدثاً عن 22 عائلة تمسك بالحياة الاقتصادية والسياسية، وتفرض توجيه الدولة لمزيد من الخدمة لمصالحها وذلك من خلال سيطرتها على المؤسسات بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

اعتاد ممارسو التنمية أن يضعوا فكرة التمكين للمؤسسات في الأولوية الأخيرة، وكأنها محصلة لجهودهم الأخرى في العدالة والإنتاجية والاستدامة، بينما أوضحت التجربة العملية أن المؤسسات لا يمكن أن تبقى في المرتبة الأخيرة، وأن أي نجاح يجب أن يبدأ من المؤسسات نفسها، وأن تمارس كل مؤسس من داخلها مبادئ الإنتاجية والعدالة والاستدامة ضمن الدور المحدد لها، وأن تتفهم حدوده بصورة سليمة وضمن منظومة صحية مصممة من أجل تحقيق التكامل وتحديد المسؤوليات، وما يمكن وصفه بنقاط الاختناق في حالة وجود مؤسسة ما لا تقوم بأداء أدوارها.

تمكين المؤسسات لا يعني مطلقاً وجود مؤسسات تعتقد في نفسها أنها تمتلك الحل وأن تنطلق لممارسته بالصورة التي يراها القائمون عليها، وكأنها في منافسة مدرسية ومحاولة لاستثارة الانتباه والإشادة، فالمؤسسة هي دور واضح لا يجب الخروج عنه، لأن ذلك يحدث خللاً وإزاحة غير مرغوبة لمؤسسات أخرى، وفي مرحلة الإصلاح السياسي والاقتصادي، فإن الرغبة في ظهور الإيجابية ربما تشكل عاملاً لتجاوز الأدوار وأحياناً التناقض معها.

على سبيل المثال لا غير، وبحسن نية يقابل النوايا الحسنة للهيئة المستقلة للانتخاب، والتي أخذت تعمل على الترويج للمشاركة الشبابية بما يناقض أحد مبادئ عملها المتمثل في الحيادية، نجد أنها دخلت في تزاحم مع مؤسسات أخرى تعمل أساساً في مجال تعزيز العمل الشبابي، ومع أن المقصد هو الرغبة في المساهمة في تفعيل الروافع المطلوبة من أجل الإصلاح السياسي، ولكن ذلك يتجاوز دور الهيئة ولا يمثل الحل، ولا يأتي بالأثر المطلوب، بل ويزيد تداخل المؤسسات التي تحتاج إلى عملية هندسة واسعة من أجل تمكينها من تحقيق أهدافها، فعندما ينتهي تداخل الأدوار يمكن الحديث عن فاعلية في السعي إلى الأهداف، وفي بنية تنفيذية يمكنها تحقيقها، لأنه ستقف على أرضية قابلة لتحديد الخلل والقصور من خلال توزيع المسؤوليات بصورة واضحة.

المحاسبة الواضحة لا يمكن إلا أن ترتبط بدور واضح، والطموح والرغبة في المشاركة، لا يعني الإرباك أو التزاحم بين المؤسسات، والتمكين المؤسسي هو الذي يمكن أن يرفع عملية التنمية، أما الهرم المقلوب الذي يجعله في آخر الأولويات، فذلك يعني استنزاف الروافع الأخرى من غير نتائج واضحة أو منظمة أو قابلة للتراكم.

مقالات ذات صلة

شارك المقال:

الأكثر قراءة

محليات