رؤية في القمة العربية.. التفاؤل الحذر هو كل ما نملكه

سامح المحاريق

مع نهاية الثمانينيات لم يعد ممكناً أن تنفصل شخصية الدولة المضيفة عن أجندة القمة العربية، وتحديداً القمة التي جرت في العراق في أيار 1990 وكانت تشهد ملامح واضحةً لمرحلة جني ثمار الحرب الطويلة بين العراق وإيران، فكانت الحرب وبما يفترض حولها من أنها حدث تاريخي واضح وقريب في الذاكرة تتوزع بين رؤيتين، لتراها بغداد حرباً خاضتها نيابة عن العرب والطبيعي أن تؤسس لمرحلة تقود العراق خلالها الأمة العربية، وينظر لها العرب بأنها حرب العراق التي استلزمت وقفةً عربيةً ويجب أن تكون تأسيساً لتحالفات عربية جديدة طموحة.

القمة التالية في القاهرة، وفي ذات السنة، يمكن أن تعتبر الأكثر صخباً في تاريخ القمم العربية، وشهدت القمة عودة مصر العملية بوصفها مركز الثقل الرئيسي في المنطقة، إلا أن ذلك لم يستمر طويلاً لتدخل الجامعة ومؤسسة القمة العربية في منعطفات معقدة واضطرابات عميقة مع قمة أخرى صاخبة في شرم الشيخ 2003 أعقبت سقوط بغداد.

هذه المقدمة ضرورية للتأسيس إلى حقيقة مفادها أن هذه القمة لا يمكن أن تنفصل عن تصورات المملكة العربية السعودية وشخصيتها الجديدة والتي يبدو أنها تقارب في ملامحها الأساسية السياسة التي انتهجتها تركيا في بداية الألفية الجديدة، أي تصفير المشاكل مع دول الجوار والفضاءات الإقليمية المختلفة مقابل التركيز على التنمية الاقتصادية والقوة الناعمة الإعلامية والثقافية.

بدأت القمة العربية في جدة قبل أشهر طويلة، فالسعودية أدركت أن الأمريكيين لا يحملون تصورات حقيقية للمنطقة ومستغرقون في لعبة التلاعب بالتفاعلات القائمة بين القوى التقليدية والصاعدة كما تبدى بصورة واضحة بين إدارتين ديمقراطتيتين وجمهوريتين منذ 2003، ولذلك توجهت بانفتاحات غير مسبوقة على روسيا والصين، وكانت التفاهمات مع ايران الثمرة المهمة التي ستأخذ المشهد في اليمن إلى واقع جديد.

حضور سوريا يمثل رؤية محور عربي يمتلك قناعة متجذرة أنه وبعد سنوات من الصراع لا يوجد سوى الحل السياسي، والأردن كانت في مقدمة الدول التي قررت أن تتخذ خطوات عملية ومحسوبة تجاه الجانب السوري، ولم تكن الخطوات الأردنية مندفعة للمحافظة على الدور المهم في تقريب وجهات النظر بين أكثر من محور عربي، وأتى التبني السعودي لهذه الخطوات لأنه ينسجم مع التوجهات الجديدة للمملكة، ولكن ذلك لا يعني أن المنطقة ستسيقظ على واقع جديد في الغد، فالكثير من الملفات ما زالت عالقة، والخطوة بخطوة، ستكون هي الفاعلية الواقعية لاستعادة سوريا و?عتمد ذلك على العلاقات العربية – الروسية – الإيرانية التي دخلتها السعودية مؤخراً، ومدى قدرة السعودية على تطبيق الصبر الاستراتيجي في أكثر من ملف.

البصمة الخاصة بالسعودية في القمة الأخيرة تمثلت أيضاً في حضور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وحققت أكثر من غاية استراتيجية، فمن ناحية، أوصلت رسالة أن الانفتاح السعودي على روسيا والصين لن يكون مطلقاً وكاملاً ولا شاملاً لجميع الملفات بالضرورة، ومن ناحية أخرى، استجلبت اهتماماً غير اعتيادي للقمة العربية وخاصة من جانب أوروبا، فزيلينسكي الذي يتجول بين القمم والمحافل الدولية يتحول مع الوقت إلى مندوب مبيعات، والقمة العربية (في السعودية) تطرح نفسها حدثاً ذا أهمية بصورة مغايرة للفكرة السابقة.

لم تشهد قمة جدة المطولات التقليدية للقادة العربية، ولا حالات احتكاكات غير مرجوة، ويبدو أنه توجد قناعة سائدة بتوزيع معين للأدوار والملفات لتجنب التزاحم، وبما يمكن أن يخلق خروجاً عن استراتيجية تصفير المشاكل المرجوة، وكان الأردن واقعياً في مقاربته لثلاثة ملفات، فلسطين وسوريا والعراق، وأظهر البيان الختامي للقمة أن السعودية بدورها ستقوم بدعم الأردن في هذه الملفات وستتوجه لتبني الرؤى الأردنية بخصوصها.

التنمية الاقتصادية حضرت بوضوح في القمة العربية، ولكن ضمن المقاربة الجديدة التي تحدثت عنها السعودية أيضاً قبل أشهر حين تحدثت عن إغلاق ملف المنح غير المشروطة، لتشهد القمة إعلاناً لموضعين اقتصاديين مهمين سيبقيان في إطار التعاون المشترك وهما سلاسل إمداد السلع الغذائية وتحلية المياه، وخلافاً لذلك، فالحضور سيكون للاستثمارات البينية القائمة على الجدوى في التكلفة والعائد، وهو ما نشهده مؤخراً في العلاقات المصرية الخليجية، وهذه مسألة تحتاج إلى تحولات كبيرة في الرؤى وربما فترة انتقالية مرهقة وملتبسة ومفخخة بسوء الفهم? إلا أنها ستبني علاقات أكثر استدامة وواقعية لأنها تقوم على واقع ملموس من طرفي الاستثمار والعائد.

القوة الناعمة، تحضر في البيان الختامي مع الإشارة إلى مبادرة تعليم اللغة العربية لأبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين العرب، وهو استثمار في اتجاهين، إحداث اختراق في الغرب تحديداً من خلال أواصر جديدة مع المهاجرين العرب، والاستفادة من المهاجرين العرب خاصة مع الحاجة إلى الكوادر المؤهلة والمدربة في كثير من القطاعات، وما يثير التفاؤل في هذا الخصوص، أن ورود هذه المبادرة في البيان الختامي لقمة انعقدت في السعودية يعني ضمنياً استعداد السعودية لتمويل هذه الجهود ورعايتها.

ما الذي يعنينا أردنياً في القمة العربية؟

الملفات الثلاثة، وخاصة الفلسطيني، فالبيان الختامي أتى ليتبنى قناعة أردنية أنه لا يوجد على الجانب (الإسرائيلي) شريك موثوق للسلام ومؤهل لتقديم ما يلزم للفلسطينيين من أجل التسوية العادية والشاملة، وكذلك، أتت الإشارة الواضحة والصريحة للوصاية الهاشمية لتضع الأردن في موقف مريح أمام تيارات نادت بتجاوز هذه الوصاية من أجل التمهيد لصفقات متعجلة متجاهلة وقائع تاريخية تواصلت لتثبت أن الاستراتيجيات الطموحة غير ممكنة أو منتجة.

اللافت هو أن البيان الختامي أشار إلى مقولة الوضع التاريخي والقانوني التي أتت في كلمة الملك أمام القمة العربية، وهو ما يحتاج بلورة متعددة الأطراف وجهوداً دبلوماسية ومؤسسية لا يمكن تجنبها أردنياً، فالمحصلة هو أنه لا يمكن أن تستقر أية حلول لا تراعي المصالح الوطنية أو المتطلبات الأردنية، ببساطة لأن الأردن هو الطرف الأكثر تداخلاً وتفاعلاً مع الشأن الفلسطيني في المنطقة العربية.

اقتصادياً، فالكرة إلى حد ما في الملعب الأردني، والخلاصات التي يجري تداولها في الخليج العربي، وفي الدول الشريكة الأخرى، تحتاج إلى انضاج على المستوى الأردني يقوم على رؤية واقعية، بعيداً عن الشعبويات وتنظير (اليد في الماء البارد).

توجد مؤشرات تدفع للتفاؤل، ومع أنه يمثل بصيصاً متواضعاً أمام خذلانات الماضي في تاريخ يتواصل لقرابة الثمانين عاماً من القمم العربية، إلا أنه لا بد من التمسك به، فاليأس جرت تجربته المرة بعد الأخرى من غير فائدة أو طائل، وللتاريخ أيضاً منطقه، وما حدث في المنطقة في العقد الأخير، وملايين الضحايا المباشرين وغير المباشرين، ربما يمثلون رشوة لصيرورة التاريخ من أجل تحقيق التوازن الذي هو منطق تاريخي في حد ذاته.

مقالات ذات صلة

شارك المقال:

الأكثر قراءة

محليات