د.نهلا عبدالقادر المومني
في خضم الأحداث المؤلمة التي تشهدها المنطقة العربية من عدوان صهيوني على قطاع غزة في ظل ركود إنساني عالمي إلا من القلة القليلة التي لا تزال تقف عند ناصية الأخلاق والقانون والإنسانية، كان الموقف الأردني الثابت والراسخ والواضح سيد المشهد العربي والعالمي على حدّ سواء، وكانت التحركات الأردنية منذ بدايات العدوان والتأكيد على تبعاته وإدانته مستمرة وعلى أكثر من صعيد. وفي إطار هذه التحركات أقف اليوم عند مفصلين أساسيين في إدارة المشهد والدفع نحو وقف هذا العدوان الآثم دوليًا وإنسانيًا على حدّ سواء.
تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا يدعو إلى هدنة إنسانية فورية تؤدي إلى وقف الأعمال العدائية وإدخال المساعدات إلى قطاع غزة تقدمت به الأردن وحصل على تأييد 120 دولة، وهذا حدث مفصلي مهم فالوصول إلى قرار يتضمن بنودًا عدة أبرزها وقف الأعمال العدائية وإيصال المساعدات وحماية المدنيين والامتثال للقانون الدولي ورفض أي محاولات للتهجير القسري يشكل خطوة نوعية في مواجهة الكيان المحتل دوليًا خاصة في ظل الرواية الإعلامية الصهيونية المسيطرة على الإعلام والتي نجحت في كسب تأييد عالمي قائم على تزييف الواقع وتشويه الحقيقة والتاريخ. إلا أن الواقع يشير إلى أنّ تبني هذا القرار ما كان ليأتي بهذا العدد الكبير من الأصوات لولا جهود سبقت ورسائل تم توجيهها للعالم بقوة ووضوح.
وهذا يقودني إلى المفصل الجوهري الآخر في إطار الأدوات التي انتهجتها الأردن سعيا لرفع الظلم عن قطاع غزة، والمتمثل في خطاب الملك عبدالله الثاني في قمة السلام التي عقدت في القاهرة مؤخرًا. الخطاب الملكي شكل نقطة تحول بمضامينه ومقارباته التي قدمها؛ ابتداء من المقاربة التاريخية القائمة على العهدة العمرية التي بدأ بها الملك خطابه، فكانت العهدة أمانا لأهل القدس على ممارسة حرياتهم الدينية وحياتهم اليومية وأمنا على أرواحهم وأحلامهم على حدّ سواء، هذه المقاربة وقفت في الخطاب الملكي حقيقة ثابتة لتظهر الفارق الحضاري المتجذر بين الشعوب والأمم، جاءت لتقف بوضوح أمام سياسة قتل المستقبل وردم الآمال والأحلام وسلب الحرية التي انتهجها الكيان المحتل بحق الفلسطينيين عامة وأهل قطاع غزة خاصةً منذ عقود.
أما المقاربة الثانية في الخطاب الملكي فقامت على مضامين الإنسانية وقيمها المشتركة؛ فالالتزام بالأخلاق وقيم الحق والعدالة لا يتطلب مواثيق دولية وتعهدات تطلقها الدول، فالأصل أنه قائم في الضمير الإنساني، موجود فيه لا يحتاج إلا في حالات محددة إذا ما فُقدت البوصلة إلى استنهاض للضمائر، ولكن ما أشار إليه الخطاب بواقع اختلفت قيمه إلى أنه «على ما يبدو أن اهتمام العالم يقل شيئا فشيئا كلما زادت وحشية الأحداث»، وهذه المقاربة لم يتم ذكرها من فراغ وإنما جاءت لتعلن أن السكوت عن الوحشية وآلة الدمار ودوامة اليأس والكراهية والموت هو بمثابة اتفاق عالمي على سياسة التجويع لعقود أخرى مضاعفة أيضا عن الأمل والحرية والمستقبل للفلسطينيين، وهنا لن تكون النتائج إلا كارثية على المجتمع الدولي عامة.
انتهاء بالمقاربة الحقوقية؛ فالقانون الدولي بشقيه القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان كان حاضرا أمام الانتهاكات الدموية المستمرة للكيان الصهيوني في الخطاب الملكي، ولكن تمت الإشارة إلى مفاصل جوهرية تضع هذا القانون على محك فقدان القيمة في مقدمتها الازدواجية في التطبيق والانتقائية في المحاسبة والمساءلة الدولية، مرورًا في وقوف حقوق الإنسان عند الأعراق والأديان، وصولًا إلى هدم المرتكز الأساسي الذي قامت عليه المواثيق الدولية وهو عالمية حقوق الإنسان النابعة من فكرة الإنسانية دون وجود حياة أهم من حياة أو إنسان أهم من آخر أو مستقبل وحرية وأمل يقبلون الاندثار مقابل أحلام وحريات أشخاص آخرين قابلة للتمدد والاتساع على حساب الإنسانية والأخلاق والقيم العالمية.
هذا الخطاب الملكي الذي نقل المشهد دون مواربة أو تجميل، وأحدث بقوة مضامينه تغيرًا في لغة الخطاب المستخدمة لتوصيف المشهد؛ فبعد هذا الخطاب أصبحت جملة مثل حياة الفلسطينيين لا تقل أهمية عن حياة الإسرائيليين تتردد على ألسنة الأفراد وقادة الرأي وغيرهم على المستوى المحلي والإقليمي وحتى الدولي.
باعتقادي فقد شكل هذا الخطاب إحدى الركائز الأساسية التي مهدت لتبني قرار الجمعية العامة المذكور وساهم بقوة الكلمة في إيصال الحقيقة وكشف زيف الرواية الصهيونية المقابلة.
إذا ومرة ثانية وثالثة ورابعة يقف الأردن صلبًا أمام أحداث جسام، ويثبت مجددًا في مئويته الثانية أنه دولة حق وعزم وعروبة وإنسانية وكرامة، يقف على أعتاب العالم ليحرك الضمير الإنساني ولو قليلًا ويتحمل تبعات ذلك ليقينه أن الإرث الحضاري والإخلاقي هو ميزان الشعوب والحضارات.