سامح المحاريق
يكتب الأستاذ حسين الرواشدة منذ فترة حول مفهوم الدولة والانطباعات التي يحملها الأردنيون تجاه دولتهم، ووصلت المباشرة في تعاطيه مع الموضوع أن يكتب «الأردنيون ودولتهم: مصارحات في لحظة انكشاف»، وعلى الرغم من الهامش الطبيعي للخلاف مع الزميل المخضرم، إلا أنني أجد من الضروري أن أشير إلى أن مقالته بما تحملها من عتب لأطراف كثيرة، تكاد تقلص مساحة الاختلاف وتؤول به إلى الصفر.
ولكن لأن الأردن لديه دائمًا فائض في التشخيص ينتج عن الوعي الذي يتمتع به الأردنيون، والفطرة التاريخية التي تستشعر أين يمكن أن نمضي أو لا نمضي، كدولة ومواطنين، فإن التشخيص هو ما يمكن أن ينضاف إلى المقولات المهمة التي طرحها النقاش، ومنها بطبيعة الحال النتيجة التي حظيت ببرواز منفرد: «الأردن، ربما، البلد الوحيد في محيطنا العربي الذي يترتب عليه -بناءً على رغبة مواطنيه والمقيمين فيه–أن يكون مشروعا للجهاد في داخله، وللجهاد أيضا على الجبهات الأخرى؛ أقصد الجهاد المدني والعسكري معا، ويُحمّلونه مسؤولية أي تقصير، ولا يترددون عن توجيه أقسى أنواع النقد والتشكيك، وربما الإساءة إليه، حتى لو قام بكل ما يستطيع».
لو حاولت أن تقسم الدول العربية إلى مجموعتين واضحتين في الأنماط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية لوضعنا دول الخليج العربي في جهة، وفي الأخرى، مصر والعراق وسوريا والجزائر واليمن وليبيا والسودان، ولبقيت الأردن والمغرب، مع الفارق في مدى انفتاح المجال العام على المستوى الشعبي لصالح الأردن، ونخبوياً لكفة المغرب، ولأن المغرب في واقعه الجغرافي يتحرر من كثير من الضغوطات على الأردن، فالمشكلة في الأردن تكمن في اللا – نمطية وفي بناء النموذج التصوري حول الأردن نفسه، بمعنى أن الأردن الذي يراه السوري أو الليبي، يختلف عن الأردن الذي يراه الكويتي أو السعودي، ولأن الأردن قائم في مساحته الخاصة، فمحاولة سحبه تجاه نموذج أو آخر تعتبر مكسبًا مهمًا، وأي تصرف أردني توجد لديه ثلاثة أبعاد، الأول، يتعلق بالتصرف أو الإجراء نفسه، وبمواقف الدول العربية في قراءة الموقف، وكلما كان الموقف يعبر عن الخصوصية الأردنية فإنه بالضرورة لا يرضي النموذجان الآخران على أية حال.
المشكلة، والتي كانت محلاً لتلميح أو تصريح الزميل الرواشدة، أن النماذج العربية المتناقضة لها متحمسون داخل الأردن، وبعضهم يتصل فكرياً وأيديولوجياً بنموذج أو آخر، لقناعة ذاتية أو مصلحة آنية، وكأن الأردن عليه أن يكون مكاناً للتسويات على المستوى الفكري، ولكنها تبقى خارج التأثير لأن الإعلام الأردني، وربما عن قصد، ونتيجة لتجاذب بين النموذجين، لم يكن مؤثراً بالصورة اللازمة.
في البدء كان حلف بغداد الذي لم يكن الملك الحسين أو الأردن من المتحمسين له يوماً، لأن قرار الالتحاق بالحلف لم يكن ذكياً ولا كان مواتياً لظروف الأردن، ولكن تكلفة مناهضته الصريحة كانت مرتفعة للغاية، وتوجهت مصر والسعودية وسوريا لتوفير أرضية لموقف أردني صريح، وبعد ذلك، بدأت التجاذبات حول الأردن بين مصر عبد الناصر، والبعث في نسختيه العراقية والسورية، وهي نسخة لم تكن واحدة على امتداد المراحل في البلدين، ومع خشونة المواجهة بين مصر وسوريا بعد الانفصال، كان على الأردن أن يخوض علاقات مرهقة مع الطرفين، فالحبل المشدود بينهما يمر فوق الأردن بالضرورة، والاحتكاكات التي ينتجها تؤثر عليه.
هذه نماذج خارجية، مؤثرة وبقيت حاضرة بصورة متباينة في جميع الأوقات، ولكن ثمة نماذج داخلية فرعية حول تصورات الأردنيين تجاه دولتهم تتعلق بترتيب الأولويات، فالكثيرون متمسكون بنموذج الدولة الريعية التي جعلت البعض يصف الأردن بأنه دولة خليجية من غير نفط، وكثيرون ينظرون إلى نموذج اشتراكي – ريعي في جوهره – تطبقه دول عربية أخرى، ولكن عند الحديث عن إمكانيات الأردن تبدأ المخيلة الجمعية في لعبة التعويض الذهني التي لا تقدم ولا تؤخر، وكم أرهقتنا الأحاديث مع كثيرين ممن يعتقدون أن الأردن يسبح فوق بحيرة نفط وأن القرار بإبقاء النفط في باطن الأرض سياسي في جوهره، وبذلك علينا أن نسترخي جميعاً في مساحة التفسير بالمؤامرة، أو بالآراء، أو بالحوادث الجزئية.
لماذا يختلف الأردن عن المغرب؟
هذا الهروب إلى الأمام من الموضوع السابق حول التصورات عن الدولة يمكن أن يفسر الكثير، ففي المغرب تمكنت الدولة من وضع الإسلاميين في السلطة، ليتم تحديدهم واحتواءهم، ولكن المغرب لديها الهامش الواسع لهذه التجربة على المستوى الداخلي، بمعنى وجود وسط سياسي فاعل ومتعدد ويمتلك تاريخاً عميقاً، ومعه نقابات نشطة، ومدارات ثقافية أكثر ثراءً من الأردن، وعلى المستوى الخارجي، فالمغرب في جوار دولة واحدة فقط وهي الجزائر التي تناصب الإسلاميين العداء وعلى الأقل التحفظ الشديد بعد تجربة العشرية السوداء، ولذلك فالأردن لا يمتلك رفاهية التقليب بين النماذج للوصول إلى حقيقة مؤداها أن الدولة تناور لتصل بالمواطنين إلى النتيجة المرجوة لدى الزميل الرواشدة: «لكن في المقابل، تستحق الدولة أن يبادلها أبناؤها التحية بمثلها، وأن يفهموا حركتها ويقدروا إمكانياتها، تستحق أن يتعاملوا معها بما يلزم من اعتراف ومعروف وإنصاف، ولا يتربصوا بها، ويتنكروا لها كما يفعل الذين يقايضونها بحسبة المصالح، أو الذين يحسبون أنها مجرد مطار للعبور، أو «بازار » لتوزيع الغنائم والحصص، أو مجرد «مقام» لشق الصدور وتبادل اللطميات والمظلوميات.».
ما الذي يريده الأردنيون؟
يمكن الإجابة بسهولة حول ما الذي لا يريده الأردنيون، وهو الفوضى والعنف وعدم الاستقرار، أما الذي يريده الأردنيون، فهذه مسألة لا يمكن الإجابة عنها إلا بالبحث عن ممثلين حقيقيين للأردنيين خارج لعبة المال السياسي واستثمار التفاهمات العشائرية والتخندق الهوياتي، ممثلين عايشوا المشكلات والتحديات ولم يرتزقوا من حالة الاحتجاج المجاني التي تمكنت من الإشارة إلى مواطن الخلل، وكأن الأمر يحتاج إلى ذكاء أو كأن الأردن يخفيها من الأساس، ولم يتمكنوا من تقديم بديل واقعي واحد، وبعضهم تنقل من المعارضة أو النقد الفضفاض إلى مواقع السلطة ليكتشف أنه لا توجد موارد لأفكاره أو نزواته، والبعض مضى في الاتجاه المعاكس وكأنه لا يعرف ولا يريد أن يعرف التركيبة الصعبة لبلد مثل الأردن في واقعه اللا – نمطي بين نماذج مستقرة ونشطة في خدمة رؤاها وأهدافها وأولوياتها.
تجربة الإصلاح السياسي يجب أن تمضي إلى مداها البعيد، لنعرف ما الذي يريده الأردنيون، وما الذي يستطيعون تحقيقه حالياً، وما المطلوب ليحققوا المزيد مستقبلاً، ومع أن بعضاً من المؤشرات حول التجربة الحزبية تبدو غير مبشرة مع دخول أخبار الجاهات والمونات على العمل الحزبي، إلا أن الأمر لا يقتصر على الحزب أو منظومته، فالمجتمع المدني الأردني حافل بالطاقات والتجارب والمعرفة والوعي، وما نحتاجه هو تأسيس منصات حوار لتجمع «الشتيتين» بين النماذج، وتستطيع أن تخرج بنموذج يمكن أن نختلف داخله ما شئنا، ولكن لا نختلف حوله أبداً، لأنه سيكون نموذجنا الوطني الذي يجب أن يتأسس على خصوصيتنا ولا – نمطيتنا إذا نظرنا لها كمصدر لثراء التجربة الأردنية في العمق والثبات، ولكنه يجب أن يتحول إلى نموذج على قدر من المرونة للتعامل مع المستقبل وتحدياته وحلوله الوسط وسيناريوهاته المختلفة.