خلط الأوراق وتزييف الحقائق في موقف الأردن من المعادلة الفلسطينية

سامح المحاريق

لكيلو مترين أو ثلاثة كيلومترات تصطف الشاحنات على جسر الملك الحسين الذي يربط الضفة الغربية بالأراضي الأردنية، والسيارات التي تعبر الجسر يجب أن تدخل أريحا التابعة للسلطة الوطنية الفلسطينية، وفي حال استكملت طريقها وهو ما يحدث عادةً فعليها العبور بمناطق (ج) ومن ثم العودة إلى الأراضي الخاضعة للسلطة، والنسبة العظمى من السيارات التي جرى تصويرها على الحدود بين الأردن والأراضي الفلسطينية كانت لا تمتلك طريقًا آخر، ومن يعرف الضفة الغربية ولا يستقي أخباره من مصادر مجهولة لا تعدو مجموعة من الشباب يبحثون عن علامات الإعج?ب، يدرك بوجود جسور أخرى يمكن من خلالها التعامل مع الجانب (الإسرائيلي).

ببساطة مئات سيارات الشحن تصطف بانتظار دخولها إلى الأراضي الفلسطينية، ولمستفيدين فلسطينيين في الداخل، ولو كانت تدخل لإسرائيل لما اضطرت للتوقف لساعات طويلة لإتمام إجراءات التفتيش والدخول، ولكن من يريد أن يتجاهل هذه الحقيقة البسيطة المكونة من أ + ب = ج، فأمامه سيناريوهات مفتوحة إلى ما لا نهاية، ومنها أن طوابير العربات التي تدخل للضفة الغربية التي أصبحت معزولة عن العالم بعد الحرب على غزة، لا تدخل لمساندة إسرائيل، ويمكن أن يصل افتراء بعض المشككين بشأن هذه السيارات التي تحمل بضاعة ومساعدات شبه مكشوفة، إلى أنها ت?مل داخلها صواريخ متقدمة لخدمة الجيش (الإسرائيلي) وكأن إسرائيل لا تمتلك أربعة أو خمسة موانئ كبيرة على ساحل المتوسط، ولا تمتلك مطارات يمكنها استقبال أكبر الطائرات في العالم!

يوجد حل مريح للغاية، في الغد، يمكن للحكومة الأردنية أن تقطع أي طريق لإمداد إسرائيل من قبل شركات عالمية أو حتى محلية ارتضت أن تتعامل مع الجانب الإسرائيلي، وبالنسبة للجانب الإسرائيلي، فالحل المريح والذي سيدخل في مجال رد الفعل الطبيعي، هو إيقاف امدادات الأردن للضفة الغربية، وبالتالي توهين الجبهة الداخلية في الضفة لتصبح أقل قدرة على الاستجابة من قطاع غزة الذي بقي يتلقى الامدادات من خلال الأنفاق لعقدين من الزمن تقريبًا، وللأسف فالجغرافيا والطبوغرافيا التي تربط الأردن بفلسطين لا يمكن أن تعمل من خلالها استراتيجية?الأنفاق لأن عليها أن تمتد لعشرات الكيلومترات تحت جبال شاهقة.

توجد توقعات عالية من الفلسطينيين تجاه الأردن، وهذه مسألة مبررة، فالضفة الغربية تعتمد وجوديًا على الحبل السري الذي يربطها مع الأردن، والفلسطينيون يرون في الأردن أحد الحلول، وفي المقابل، فالتجربة التاريخية الأردنية خلقت موقفًا متحفظًا يقول بضرورة التعامل مع الشرعية التي يختارها الشعب الفلسطيني، ووجدت ضغوطات أردنية، مباشرة وغير مباشرة، لتجديد الشرعية قبل الحرب على قطاع غزة، إلا أن السلطة تلكأت لتجد نفسها في الزاوية الحرجة، وتجد الوقت متأخرًا للغاية.

خنق الضفة الغربية ليس خيارًا أردنيًا، لأن الخنق سيولد الاحتمالات الكارثية على الفلسطينيين والأردنيين، وفكرة تعزيز الصمود ليست مجرد شعارات، ومن مفردات الصمود بجانب الإيمان والعقيدة، الماء والطحين في أضعف الإيمان، والدواء في الحدود المقعولة الإسعافية، ولذلك تحركت الأردن قبل أي دولة بالإنزالات الجوية، هل ذلك بتنسيق مع قوى دولية مؤثرة؟ نعم، ولنتصور لو بقيت الأمور معلقة بالأرصفة الأمريكية، ولو فقدت الترتيبات للمساعدات من خلال سيارات نقل أردنية دخلت من جسر الملك الحسين وتوجهت إلى غزة، ووقفت في طوابير لكيلومترين ?و أكثر!.

في الذهنية السياسية العربية بقيت غزة خارج مسؤوليات الأردن، ولمرحلة طويلة لم تكن مصر لتسمح أصلًا بتدخل أي طرف في الشأن الغزي، وبالمقابل، فالضفة ملف أردني، إلا أن الملف الذي يدخل في خانة (فيلقل خيرًا أو ليصمت) منذ العام 1998، عندما اختتمت قبلة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات على رأس الملك الحسين تاريخًا من التنافس والجدل حول الضفة الغربية، ولكن بقيت الطموحات الإسرائيلية في فكرة الوطن البديل تفرض على الأرض عملية من التمكين ضمن المسؤولية القومية والوطنية وحتى المصلحة الأردنية، لفكرة سلطة فلسطينية قوية، ولأجل ذلك ب?يت الأردن تناور وتحاور حول الخيط الرفيع وشعرة معاوية مع الجانب الإسرائيلي، وبعد أن رحل الحسين ورابين اللذان كانا يحملان بعض القناعة باستدراك تكلفة الحروب، كان عبد الله ونتنياهو وعدم القبول المتبادل والعلاقة العدائية منذ البداية، وإذا كانت التقاليد الملكية تحول دون أن يبتذل الملك نفسه في مشاعر الحب والكراهية، فالكثير من تصرفات نتنياهو كانت تحاول استدراج الأردن لمنازلة صفرية، وصلت إلى ذروتها مع الرد الأردني بمنع طائرة نتنياهو من التحليق فوق الأجواء الأردنية، بعد أن وضعت إسرائيل شروطًا غير مقبولة لزيارة ولي ا?عهد الأمير الحسين إلى مدينة القدس.

للأردن أوراق عند الجانب الإسرائيلي، وللأردن أعداء جذريون كذلك، وفي المقابل، توجد مسألة شعب فلسطيني تتغيب عنه أدوات الاستدامة والمقاومة في هذه المرحلة الحرجة، ولتجنب لحظة من الفوضى وضعت الأردن كثير من الإمكانيات لإبقاء الصراع داخل فلسطين، وليس للدخول في مأساة جديدة تحت التقديرات الخاطئة والشعاراتية التي أفقدت العرب مساحة شاسعة من فلسطين في 1947، وبعد ذلك في 1967، وبحيث يتم التراجع عن الخطوط الأمامية واستقبال المشكلات الإسرائيلية داخل الأردن وغيره من الدول العربية، وربما دفعت هذه الصورة الكثيرين لتصور أن الأ?ر فرصة لمهاجمة الأردن وانتقاده، والأردن مثل أي دولة أخرى، ليس محصنًا من النقد ولا متعاليًا عليه، ولكن تزييف الحقائق للوصول إلى نتائج معاكسة، وفي هذه المرحلة الحرجة، وسواء كانت النوايا حسنة أو سيئة، يعتبر خروجًا من آخر حدود المقبول أخلاقيًا في السياسة ليصبح استغلالًا للحظة حرجة للمباغتة في الظهر في وسط تشاغل الأردن بإمكانياته المحدودة للدفاع عن مصالح الفلسطينيين، ومصالحه بالطبع.

مقالات ذات صلة

شارك المقال:

الأكثر قراءة

محليات