تفرغ «النواب» أسوة بموظفي القطاع العام

أ. د. ليث كمال نصراوين

ضمن سلسلة خطوات الإصلاح الإداري المنشود، أقر مجلس الوزراء مؤخرا تعديلات جوهرية على الأنظمة الوظيفية التي تحكم الموظفين العموميين، حيث أصدر نظاما خاصا يسمى نظام إدارة الموارد البشرية في القطاع العام لعام 2024، وأخضع نظام الخدمة المدنية لمراجعة شاملة، كان من أهم بنودها حرمان الموظف العام من العمل بوظيفة أخرى خارج أوقات الدوام الرسمي.

وقد تسابقت الأصوات المؤيدة لهذا الموقف الحكومي للدفاع عن مشروعيته، متمسكين بفكرة أن الأصل هو تفرغ الموظف العام، وأن أي عمل إضافي مأجور يعد استثناء على الأصل العام بأن التفرغ هو أساس نجاح العمل الوظيفي، وأن أي عمل آخر إلى جانب الوظيفة العامة سيكون له تأثيرات سلبية على أداء الموظف العام لمهام عمله الأصلي.

إلا أنه وفي ضوء الاعتراضات الشعبية على هذا الحظر المطلق، تراجعت الحكومة عن موقفها، وأعادت للموظف العام حقه بأن يمارس أعمالا خاصة به بعد انتهاء ساعات العمل الرسمية، لكن ضمن ضوابط محددة أهمها عدم تأثير هذا العمل على انتاجية الموظف في القطاع العام، وعدم حصول تضارب في المصالح بين واجبات عمله الرسمية ومصالحه الخاصة، وضمان الحيادية في اتخاذ الإذن بالعمل.

وتبقى الدروس المستفادة من هذه التطورات التشريعية المتعلقة بالوظيفة العامة أنه لا ضَير من اخضاع العاملين في القطاع العام لقيود تنظيمية تخص الأعمال الإضافية التي يمارسونها أثناء خدمتهم في مؤسسات الدولة وإداراتها المختلفة، وأن هذا التنظيم قد جرى الاتفاق على أن يأخذ شكل التقييد الإجرائي والموضوعي وليس الحرمان المطلق.

وهنا يثور التساؤل حول مدى امكانية اخضاع أعضاء مجلس النواب لقواعد تنظيمية تحكم الأعمال التجارية والمالية التي يمارسونها أثناء فترة عضويتهم في السلطة التشريعية، ومدى قانونية اسقاط الحجج الحكومية وتلك المناصرة لها على ممثلي الشعب في مجلس الأمة، بحيث يتم الانتقال إلى مرحلة يتفرغ فيها النائب للعمل التشريعي والرقابي، أو على الأقل فرض قيود وضوابط على الأعمال الخاصة به خلال العمر الدستوري لمجلس النواب.

وقد يحتج البعض بوجود اختلاف في الطبيعة الدستورية لكل من النائب والموظف العام، والذي تأكد في القرار التفسيري الصادر عن المحكمة الدستورية في عام 2014، ومفاده أن عضو مجلس الأمة من أعيان ونواب، لا يعتبر موظفا عاما لغايات استحقاق أي رواتب تقاعدية.

إلا أن هذا التباين في المركز القانوني لكل من النائب والموظف العام لا يبرر بأي حال من الأحوال اطلاق يد العضو المنتخب لمباشرة كافة الأعمال التجارية والمالية ومتابعة مصالحه الخاصة به خلال فترة عضويته في مجلس النواب دون حسيب أو رقيب، ودون اخضاعه لشروط تنظيمية تهدف إلى حماية المال العام، ومنع حالات التعارض بين المصلحة العامة ومنافع النواب الشخصية.

وما يعزز من أهمية تنظيم الأعمال الخاصة بأعضاء مجلس النواب ضعف التشريعات الوطنية التي تهدف إلى ضمان المكاشفة والمصارحة في مصالحهم المالية. فقانون الكسب غير المشروع لعام 2014، والذي يلزم أعضاء مجلس النواب وغيرهم من كبار موظفي الدولة بتقديم إقرارات الذمة المالية الخاصة بهم وبزوجاتهم وأبنائهم القصّر خلال فترات زمنية محددة تحت طائلة فرض عقوبات جزائية عليه، بحاجة إلى تطبيق حقيقي على أرض الواقع.

ولا يغير في طبيعة الأمر ما جاء في المادة (76/3) من الدستور بأن أعضاء مجلسي الأعيان والنواب يتقاضون مخصصات العضوية التي يحددها القانون. فاسقاط صفة الموظف العام عن عضو مجلس الأمة وصرف مخصصات العضوية له وليس رواتب شهرية، لا ينفي بأي حال من الأحوال امكانية فرض شروط تنظيمية على ما يباشره من أعمال تجارية واستثمارية خلال فترة عضويته في مجلس الأمة.

إن هناك قيودا مفروضة حاليا على أعضاء مجلسي الأعيان والنواب تتعلق بطبيعة الأعمال التجارية التي لا يحق لهم ممارستها. فالمادة (75/2) من الدستور تحظر على كل من النائب والعين أن يتعاقد مع الحكومة أو المؤسسات الرسمية العامة او المؤسسات العامة أو الشركات التي تملكها أو تسيطر عليها الحكومة أو أي مؤسسة رسمية عامة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما تمنعه من أن يقوم بتأجيرهم أو بيعهم شيئا من أمواله أو مقايضتهم عليه.

وعليه، فإن التوسع في فرض القيود التنظيمية على أعمال النواب والأعيان يتوافق تماما مع موقف المشرع الدستوري الذي لم يطلق لهم العنان لممارسة كافة الأعمال التجارية أثناء عضويتهم في السلطة التشريعية.

وهنا يمكن التفكير في توسيع نطاق هذه الضوابط لتشمل فرض حد أعلى للدخل السنوي المتأتي لأعضاء مجلس الأمة من أعمالهم التجارية الخاصة بهم، مع التأكيد على أهمية مبدأي الشفافية والعلانية في مصالح النواب والأعيان المالية من خلال التقيد بنصوص قانون الكسب غير المشروع، وذلك في حال عدم نجاح مقترح التفرغ التام لأعضاء مجلس النواب أسوة بالموظفين في القطاع العام.

مقالات ذات صلة

شارك المقال:

الأكثر قراءة

محليات