الرد الإيراني بين الخطاب والفعل!

سامح المحاريق

فشلت الدولة العثمانية في تفهم التضليل الذي تنضوي عليه مقولة «عدو عدو صديقي» الذي أدى إلى خروجها خاسرًة وفاقدًة للثقة بعد حروبها مع محمد علي وروسيا القيصرية، فالبريطانيون والفرنسيون لم يساندوا العثمانيين إلا لمصالح ضيقة ومؤقتة، ولم تترد القوتين في الانقضاض على التركة العثمانية وتقاسمها بعد ذلك بفترة ليست بالبعيدة.

هذه هي السياسة الدولية ولعبة الأمم الممتدة منذ قرون، والبرغماتية السياسية أو النظر في المصلحة الوطنية المجردة يبقى أحد الأولويات للدول العميقة تاريخيًا، والإيرانيون يشكلون مدرسةً سياسيةً قديمةً تدرك معنى الصبر الاستراتيجي، ولذلك أصبحت كناية حائك السجاد الإيراني تحمل وجاهةً كبيرةً في المقولات السياسية، فالحائك الإيراني ينكب على العمل ويغرق في تفاصيل التفاصيل ويرى الصورة التي لا يراها غيره، ويعتبر الوقت عاملًا ثانويًا.

الصبر الاستراتيجي كان من المصطلحات التي ظهرت بصورة مبكرة بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وأصبحت أساسًا للتنظير لاستراتيجية المساندة التي تحدث عنها الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، حيث كان واضحًا أن ايران لن تنساق وراء الرد الإنفعالي، وأنه لا تغيير جوهري على سياستها الإقليمية جراء الحرب على غزة.

لم يكن استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق هو الأول في سلسلة طويلة من الضربات التي وجهت لمصالح إيرانية داخل سوريا، وكان الإيرانيون يندمجون في التصريحات الشهيرة التي تؤكد على الاحتفاظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين، ويعملون في بعض الحالات على توظيف تحالفاتهم مع حزب الله أو جماعة أنصار الله الحوثية لتبني عمليات مدروسة لا تمهد للتصعيد مع الجانب (الإسرائيلي).

الأردن الرسمي يدرك هذه الحقيقة في نفس الوقت الذي يعرف أن جانبًا من الأردنيين تحركهم العاطفة الجياشة تجاه أي فعل انتقامي تجاه (إسرائيل)، سواء أتى من إيران أو من تركيا أو كان تلويحًا من روسيا أو الصين، ويحتفي بمجرد الامتعاض الذي قد تبديه أي دولة أوروبية، الأردنيون بوصلتهم القدس، والهموم الفلسطينية تتواجد في كل بيت أردني، ولكن الدولة الأردنية تدرك من خلال المعلومات الواضحة أمامها، ومن متابعتها للتاريخ وتفاصيله ومساراته، ومن ضرورة وحتمية تصرفها المسؤول للمحافظة على الأردن الناس والأرض، بوصفه الوظيفة الأولى والمطلقة لأي دولة وكيان سياسي، أن فرقًا واسعًا يكمن بين الخطاب والفعل في عالم السياسي.

عايش الأردن هذه الحالة من قبل مع جمال عبد الناصر، وبعد أن أعلنت مصر إغلاق خليج العقبة توجه الملك الحسين، رحمه الله، إلى القاهرة لتوقيع اتفاقية الدفاع المشترك مع المصريين، ولكن الأيام التالية أثبتت أن الاستسلام للخطاب ومخالفة القراءات الواقعية المستندة إلى الحقائق والتحليل المتأني والمتوازن يؤدي إلى نتائج كارثية كبرى.

تخدم السياسة الخارجية الإيرانية رؤية طهران لمصالحها التي وجدت أن قدرتها على التأثير في محيطها ستكون أفضل استراتيجية للحيلولة دون تعرضها لضغوط على بنيتها الداخلية في ظل حكم ديني متشدد، وبطبيعة الحال، لا يمكن التشكيك في أن إيران مثل بقية الدول العربية والإسلامية ترى في إسرائيل كيانًا غاصبًا مارقًا وخطرًا على المنطقة واستقرارها، ولكن ما مدى أولوية ذلك لدى الإيرانيين؟ هذه هي النقطة الأساسية التي لا يجب أن تتغيب عن أحد، وخاصة ممن يرددون بغير وعي، وبمنطق مشجعي أندية كرة القدم، الثنائية المريحة لصراع إيراني – إسرائيلي.

إلى اليوم يوجد من يقتنعون بأن العراق هي التي افتعلت الحرب مع إيران، ويوجد من يؤمنون بالعكس تمامًا، ويتناسى الجميع أن إيران وجدت في مظلومية المجتمع الشيعي في العراق فرصةً من أجل بناء تحالف يدور حول الحكم الديني في طهران، وتمكنت من استغلال الاضطرابات الاجتماعية لدى المكونات الشيعية في أكثر من بلد عربي لتبني قاعدة لوجودها وذلك ضمن رؤية قائمة على المصالح، فالإيرانيون يتقاربون مع الزيديين في اليمن، مع أنهم وقبل أن تتورط اليمن في الصراع الداخلي الأب الروحي للجماعة الحوثية أبلغوا بدر الدين الحوثي أنه شخص غير مرغوب به في (قم) أو (طهران) لأسباب مذهبية.

اغتيال الشهيد اسماعيل هنية في طهران ضربة وجهة لهيبة إيران، ولكن تبقى حسابات التكاليف مهمة للغاية، وفي الغالب، الإيرانيون لا يريدون حربًا في هذه المرحلة، فإيران استوعبت التحرش الإسرائيلي لسنوات لأن قرار المواجهة ليس واردًا في الحسابات الإيرانية لتهديده لأصول وطنية إيرانية تسعى إيران للمحافظة عليها، ومن أجل ذلك، يمكن المناورة حول أصول لبنانية أو سورية أو يمنية.

متابعو السياسة بذائقة مشجعي كرة القدم ينظرون إلى الأردن وكأنه يقف جدارًا في مواجهة التسديدة الإيرانية تجاه إسرائيل، مع أن إيران أبلغت أكثر من دولة بنيتها للرد على استهداف قنصليتها في دمشق، والهجوم كان بمسيرات غير متقدمة أتاحت الفرصة لإجهاض معظم زخم الضربة، وهي الضربة التي كان يفترض أن تكون بالحجم الذي وجهه صدام حسين لإسرائيل في مطلع التسعينيات وأسفر عن 77 قتيلًا إسرائيليًا، مع اعتبار فارق التقنيات العسكرية خلال أكثر من ثلاثين عامًا.

هل يجب على الأردن أن يفتح سماءه وأجواءه في ظل هذه الوقائع والحقائق، وأن يستسلم لحملات إلكترونية تحاول أن تجعله المشكلة التي تعطل الغزوة الإيرانية المظفرة التي ستقضي على إسرائيل! ألا يذكر ذلك بفصول كثيرة من الإحباطات المتتابعة التي خلقت التشوهات في الشخصية العربية؟ هل يجب أن نظل محكومين بذاكرة السمكة؟

هل يوجد عاقل واحدٌ في المنطقة بأسرها، بما فيها إيران، يعتقد بأن ذلك ممكن الحدوث في الظروف الراهنة؟ وهل يوجد من يعتقد أن إيران يمكن أن تعرض أراضيها لمخاطر جدية في ظل التعقيدات القائمة هناك؟

البدائل الإيرانية كثيرة، واستطاعت أن تحقق اختراقات متقدمة في المنطقة، تصنف مع مصالح أو ضد مصالح الدول التي يتواجد فيها النفوذ الإيراني، وهذه ليست المشكلة في الأردن، وما يعني الأردن أن يتجنب أي مغامرة غير محسوبة خاصة مع تراكم الحسابات الخاطئة على امتداد أكثر من سبعين سنة، كانت إيران نفسها جزءًا منها في أكثر من محطة.

على إيران أن تختار الرد الذي يناسبها، ولكن من خلال حساباتها وأدواتها الخاصة، أما الأردن فتحركه مصلحة مواطنيه وسلامتهم، والدولة الأردنية هدفها أن توفر لهم الحياة الكريمة ما استطاعت، أما أن تمهد طريقهم للجنة تحت رايات سوداء أو حمراء، فهذه ليست من واجبات الدولة ولا من أدوارها.

مقالات ذات صلة

شارك المقال:

الأكثر قراءة

محليات