سفر طويل وزاد قليل

د.نهلا عبدالقادر المومني

لا يدرك الإنسان قصر الحياة وتعب الرحلة إلا في محطات مفصلية، لحظات تضع الإنسان أمام مشاهد موثقة لتلك المسافات المقطوعة ذهابا وإيابا، صعودا وهبوطا، جدلا وتسليما، اتقادا وانطفاء وصولا إلى المحطة الأخيرة التي قد يمشي اليها أحدهم وحيدا ويموت وحيدا، أو تلك التي قد يقول فيها قائل «سفر طويل وزاد قليل»، وبين هذا وذاك تبقى مسافة العبور اختبارات لا تنتهي وتساؤلات لولاها لفقد الإنسان دهشة الأطفال وشغف الحياة.

لعل الاختبار الأصعب في تلك الرحلة أن تكون حياة الإنسان عنوانها الرئيسي هو الحرب والعدوان على كل ما يحيط به لمجرد أنه يحمل هوية ما ويعيش على أرضه. في هذا الاختبار تكون غزة وأهلها المشهد الأكثر إيلاما، والأعمق تفكرا في الوقت ذاته، فلا يمكن لما حدث أمام أعيننا على مدار عام كامل أن يكون حدثا عابرا سيوثق ويؤرخ في سجلات الحرب وحسابات الهزيمة أو النصر فقط.

غزة وما تبعها وما شهدته وما تزال أظهرت أمام العالم بوضوح تناقضات الحياة، ففي الوقت الذي يتوجب أن تكون الإنسانية هي المحرك الأول للبشرية في عدوان كهذا، كان الأمر معاكسا للفطرة وللطبيعة، فالإنسانية كانت في أدنى مستوياتها وتلاشت الأخلاق أو كادت، وفقد العدل مساره وباتت البشرية في تناقض واضح مع كينونتها، وأمسى السؤال الوجودي ما الذي يريده الإنسان من أخيه الإنسان!

في كل يوم يمر على قطاع غزة نعلم جيدا أن لا معجزات قانونية ستحدث على أرض الواقع، فالقرارات تراوح مكانها وآليات التنفيذ تراقب من بعيد مشاهد القتل والدمار، وفي ظل ذلك كله كانت الحقيقة الثابتة أن معجزة الإنسان هي الأبقى؛ يظل الإنسان على هذه الأرض المقدسة القادر دوما على أن ينهض من جديد مهما وضع في غياهب الجب، كعنقاء العرب وأسطورتهم الخالدة تموت فتستنهض من رمادها روحا جديدة، فسلام دوما على من ينهض ويولد من جديد.

الاختبارات الأكثر إيلاما، هي ذاتها اختبارات الحياة التي تجعل الإنسان أكثر بصيرة وتبصرا؛ فهي التي تحتاج قراءة ما بين الحروف والأسطر وما خلفها وتتطلب يقينا راسخا أنها جاءت لتقدم لنا وللحياة دروسا كبيرة، فالبصيرة واليقين زادان لاغنى عنهما وبدونهما تصبح الحياة خاضعة لحسابات دقيقة لا خروج عنها، تدفع بالإنسان أحيانا إلى فقدان الأمل والثقة بأي شيء وكل شيء، فكما قيل ويقال دوما عندما تعمى البصائر عن رؤية ما وراء الأحداث فما حيلة الإنسان إلا البصيرة.

عودا على بدء وبعيدا عن الحسابات الظاهرة للعيان التي قد لا يجد الإنسان تفسيرا لها، في الجانب الآخر كثر في هذا العالم من قادة الحرب وقتلة الإنسان من سيقفون بينهم وبين أنفسهم يوما ما، طال أم بعُد ليقولوا «غم شديد، وجهد جهيد، وألم مضيض، ونزع جريض وسفر طويل وزاد قليل».

مقالات ذات صلة

شارك المقال:

الأكثر قراءة

محليات