لا أحد يستطيع أن يزاود على الدولة


سامح المحاريق

طلب الجيش الأردني من حملة دفاتر خدمة العلم مراجعة المكاتب المعنية قبل السفر، وهو الإجراء المجمد عمليًا منذ سنوات طويلة، وبطبيعة الحال، فالإجراء يستعرض الخيارات الأردنية في هذه المرحلة، بما يعني أن الأردن، لسبب ما وفي توقيت محدد، وحسب ما تقتضيه المصلحة الوطنية، يمكن أن يستدعي عشرات الآلاف من الشباب للخدمة العسكرية، بالإضافة إلى قواته العاملة أساسًا، وتناقل الأردنيون صورًا لازدحام المكاتب المعنية في مختلف مناطق المملكة.

الأردن لا يستبعد الوصول إلى مرحلة الخيارات العسكرية، دفاعية أو استباقية، ولذلك حدثت المناقلات الكبيرة بين الحدود الشمالية ومناطق الأغوار في الجانب الأردني، وفي الوقت نفسه، بقي الأردن مصرًا على مواجهة أي دعوات لتسليح العشائر الأردنية أو أي نوع من التلميح بالتحول إلى فاعل سلبي داخل أراضيه، فالأردن ما زال يصر على الفعالية المطلقة للدولة في حدودها الجغرافية ووفقًا لمفهوم السيادة الكاملة.

بطبيعة الحال، يمكن لحالات معينة أن تتسلل إلى داخل إسرائيل في حدود طولها مئات الكيلومترات، وهذا ما يحدث بين وقت وآخر، ويعرف الإسرائيليون أن الأمر في الحالة الأردنية لا يمكن أن يمثل ذريعة من أجل مطالب أمنية أكثر مما يتحمله المزاج الأردني في هذه المرحلة، وما يدركه الأردنيون أن حالة من الغليان النفسي تعتمل في الأردن، وأن إدارتها ملف أردني خاص للغاية، ولذلك حرصت الأردن على استعادة جثمان الشهيد ماهر الجازي من الجانب الإسرائيلي، وهو الذي تصرف بعفوية ومن غير أي ارتباطات تنظيمية، وكانت استعادة جثمانه رسالة أخرى حرص? عمان على تمريرها للكثير من المتابعين.

استدعاء ذلك بعد عملية التسلل التي أدت إلى مقتل شابين أردنيين متحمسين وراء الحدود مسألة مهمة، والأسئلة القائمة حاليًا تدور حول الملابسات، وهل توجد في الأردن أي جهة تريد أن تسبق الدولة وأن تحرجها أو تفرض أجندتها، أم أن الحالة يمكن أن تحتسب في ردود الفعل العفوية التي لا تقدرها إسرائيل وهي تواصل ارتكاب مجازرها ضد الفلسطينيين بصورة غير مسبوقة في التاريخ الحديث بأكمله، فالأمر لم يعد مسألة عمليات عسكرية تستهدف السيطرة على الأرض وتحييد المخاطر المحيقة بـ (إسرائيل)، بل وأصبحت تمتد لعملية تطهير عرقي واسعة تسعى لتقوي? وجود الفلسطينيين على أرضهم.

من المهم معرفة الإجابات، والبيان الذي أصدرته جماعة الإخوان المسلمين يمكن أن يعتبر خطوة جيدة في هذه المرحلة، فالتنظيم الذي تمكن من الحصول على مواقع معقولة في المجلس النيابي المقبل، يؤكد أن التسلل رد فعل فردي من شباب أردني لم يتحملوا مشاهد الوحشية الصهيونية الغاشمة، ولكنه يتوجب أن يؤسس لمرحلة من تحديد خطوط الاشتباك بين الدولة والتنظيم، خاصةً أن ثلاثين نائبًا يرتبطون به سيتوجهون إلى العبدلي قريبًا، والمطلوب منهم أن يكونوا ضمن منظومة المسؤولية الوطنية الشاملة التي تسعى بالمناسبة إلى نفس المطالب الأساسية التي ح?لتها تنظيمات المقاومة الفلسطينية، وهي تحقيق نموذج لحياة كريمة لملايين الفلسطينيين في الأرض المحتلة 1967 في دولة ذات سيادة وطنية، مع المحافظة على المقدسات الإسلامية، فما الذي يختلف في هذه الدعوات عن الذي ينادي به الأردن منذ عقدين من الزمن.

رفض الأردن صفقة القرن لأنها تتعارض مع مصالح الفلسطينيين على المدى البعيد، وتسعى لخلق بيئة غير مواتية من أجل بقائهم في أراضيهم، وتحمل التكلفة السياسية لرفضه الصفقة في وقت بدى فيه العالم متعجلًا لأي تسوية للقضية الفلسطينية، وفي صبيحة السابع من أكتوبر كانت العملية تمثل الصرخة التي يريدها الفلسطينيون في مواجهة التجاهل الممنهج لحقوقهم والموقف السلبي من المجتمع الدولي تجاه مظلوميتهم التاريخية، والأردن دولة تعرف ذلك، وتطبقه في سياسته، وتتقاطع مصالحها الوطنية معه.

أراد الشابين الذين تخطيا الحدود أن يقوما بفعل إيجابي بنوايا حسنة، ولكن في ظل الفوضى في المنطقة، والتداخل في الإشارات وعملية إعادة التمركز، فالدولة هي الطرف الذي يمكنه أن يحدد ما الذي تريده من الأردنيين، وتوقيته وكيفيته ومداه، والدولة بمعناها الكلي في هذه المرحلة تتجاوز حتى السلطات الثلاث التي تشكل هيكلها في الفعل لتمتد إلى المجتمع المدني وقوام الأردنيين كافة، بمعنى الدولة التي يمكن أن تتصرف في قانون للدفاع ووفقًا لأحكامه ومعطياته.

تعد عملية التسلل والاشتباك التي تدلل على فرديتها قدرات الشابين القتالية، عملًا في توقيت غير مناسب، ومحاولة تبنيه من أي إطار تنظيمي يدفع لتصور بوجود قوة موازية للدولة في الأردن وهو الأمر غير الصحيح، وفي أفضل الأحوال، فإنه يظهر طرفًا أو آخر، في سعي متعمد لإحراج الدولة واستدراجها لمواقف وتصريحات غير ضرورية، وجعلها عرضة لضغوطات غير مبرمجة ضمن استراتيجية المواجهة متعددة المستويات.

الإسرائيليون يعرفون المقاتل الأردني، وماهر الجازي الذي تقاعد من الجيش الأردني منذ سنوات كان ما زال يمتلك الملامح القتالية الرفيعة، والأردن في التصورات القائمة، وداخل الرؤية القائمة لأشهر قادمة، والإشارات الواضحة والمبطنة، من الأطراف التي تعد ما يحدث صراعًا من أجل تعديل المواقع لا من أجل تحقيق نتائج تتسق مع المبادئ المعلنة، يعرف أن قواته المسلحة تستطيع أن تحقق أهدافه الوطنية في المكان والتوقيت الذي يناسبها – إلا إذا كانت بعض الأطراف قامت بتأميم هذا المصطلح – ولا يحتاج إلى أي مساندة شعبية إلا التي يمكنه أن ي?ظمها من خلال عمل مؤسسي يتكفل به الجيش العربي، والخزان الشبابي في الأردن بين الأكثر كفاءة في المنطقة والعالم، فالأردن بين الدول الأكثر شبابًا في العالم، ولكنها تختلف عنهم فشبابها نتاج لحالة اجتماعية سليمة وظروف تليق بدولة مؤسسية، لأنها تمتلك نظامًا صحيًا متميزًا ولأنها لم تخض حروبًا أهليةً استنزفت الرجال من غير مقابل ولا طائل في النهاية، وهذه النقطة يمكن أن تظهر بوضوح في الحسابات الاستراتيجية في المنطقة.

الخسارة المجانية لشباب أردنيين هي فادحة عندما تكون غير منتجة، من غير التشكيك في النوايا في حالة الحوادث الفردية التي هي نتاج لسياسات الكيان العدواني وأعماله الاستفزازية، ولكن في حالة وجود تنظيمات تتلاعب بالخطاب والممارسة بحيث تصبح عاملًا تشويش على الجيش وتركيزه وحساباته الدقيقة، فالأمر يجب أن يكون موضوعًا للمحاسبة وللضبط خاصة أن المرحلة المقبلة تتطلب كل تركيز وواقعية ومصداقية، ولا مجال فيه لخطاب مختلف بين المنابر والكواليس.

مقالات ذات صلة

شارك المقال:

الأكثر قراءة

محليات