د.نهلا عبدالقادر المومني
في كتابه “تجديد الفكر العربي” يطرح زكي نجيب محمود إشكالية اللغة ودورها في إحداث ثورة لدى الأمم، وفي هذا يشير إلى أنّه ليس من المتصور لأمة من الأمم أن تنهض في إطار ثورة فكرية كاسحة للرواسب، إلا أن تكون بدايتها نظرة عميقة تراجع بها اللغة وطرائق استخدامها؛ لأن اللغة هي الفكر، ومحال أن يتغير هذا بغير تلك.
وأداة الانتقال من مرحلة إلى أخرى تكون بتغيير الأداة وهي هنا اللغة ويسوق نجيب في هذا الصدد التجربة الفرنسية التي تلت الثورة الفرنسية فيقول” ما كاد الفرنسيون أن يعلنوا الثورة السياسية والاجتماعية، حتى اجتمع رجال الفكر منهم ليبحثوا في اللغة الفرنسية على أي نحو يتصورونها، وفي أي اتجاه يوجهونها.. ولم يكن قد مضى على الثورة عام 1789 سوى أربعة أعوام حتى حلت السلطة القائمة ما كان من مجامع علمية، رغبة منها في أن تعيد بناءها على خطة جديدة تتفق وروح الثورة التي أرادت أن يستدبر الفرنسيون من تاريخهم مرحلة ليستقبلوا مرحلة جديدة كاملة شاملة، ليتم انشاء المعهد القومي للعلوم الذي كان أحد فروعه الأساسية قسم الآداب، وهو القسم ذاته الذي ضم فرعا لتحليل الأفكار وفرعا للأخلاق وثالثا لعلم الاجتماع وآخر للتاريخ، وهي الفروع التي عنيت بتحليل المعرفة الإنسانية تحليلا يبين وسائلها ومداها وحدودها، فكانت اللغة هي الوسيلة التي لا وسيلة سواها لنشأة المعرفة الإنسانية وتكوينها وتطويرها.. فالتقى أصحاب هذا الفرع على اختلاف توجهاتهم الفكرية على فكرة واحدة وهي ضرورة البحث في فلسفة اللغة.. ليكون هذا البحث ركينا لأي تفكير يجيء بعد ذلك”.
مسألة مهمة باعتقادي تطرق لها زكي نجيب محمود في رؤيته لمكونات وآليات تجديد الفكر العربي ففي الإطار النظري المعرفي، اللغة أداة التفكير الأولى والذكاء اللغوي عامل حاسم في تقدم الشعوب ونهضة الأمم لا جدال في ذلك، فالنمو اللغوي والحصيلة اللغوية عند الأطفال تشكل عاملا حاسما في تكوين الشخصية الإنسانية لاحقا، وهناك مقارنة قائمة دوما بين الحصيلة اللغوية للطفل العربي وغيره من أطفال في مناطق أخرى بالعالم بأنها حصيلة محدودة وضيقة وهو ما يؤثر لاحقا على طريقة التفكير واتساع الأفق.
في سياق متصل المقاربة الحقوقية في هذا الإطار تبدو قائمة أيضا؛ فالحق في اللغة يعد جزءا لا يتجزأ من حقوق الإنسان المكفولة في المواثيق والصكوك الدولية وكذلك في دساتير الدول على اختلافها، وهو حق أبعد بكثير من أن ينظر إليه على أنه يختزل في ممارسة لغة ما وإنما ينطوي على أبعاد كثيرة منها قدرة السياسات التعليمية القائمة على أن تشكل اللغة بحد ذاتها أداة في بناء الشخصية الإنسانية وتمكين الأفراد من أدواتها وتوظيفها في خدمة العلوم المختلفة.
على أرض الواقع وفي الإطار الإقليمي يبدو وكما يذهب محمد عابد الجابري إلى أن الإنسان العربي يعاني أزمة لغوية، أدت بالنتيجة إلى أزمات فكرية في الكثير من الأحيان، وإلى تراجع في مخرجات التعليم ومدخلات سوق العمل، وهو ما يقتضي أن تبدأ السياسات التعليمية وواضعوها بالتفكير ضمن أطر مستجدة قادرة على فهم جذور المشكلة وصولا لعلاج ظواهرها.