رحلة عبر شارع الرشيد بغزة.. لا معالم ولا حياة وطريق يثير الشجون

أخبار حياة – في كل مرة تسلك طريق الرشيد عابرا من المنطقة الوسطى إلى مدينة غزة، تكتشف أهوالاً جديدة عاشتها هذه المنطقة على مدار أكثر من 15 شهراً من الحرب الصهيونية على قطاع غزة.

فلا يمكن من خلال المرور مرة واحدة أن تكتشف كل ما حل بالطريق ومكوناته وجوانبه وما حوله من مشاريع سياحية وأبراج سكنية وبيوت فارهة وشاليهات سياحية ومشاريع صغيرة وحقول زراعية.

فالطريق التي طورته اللجنة القطرية لإعمار غزة ضمن حزمة المشاريع الكبرى التي أعلنت عنها قطر في زيارة الأمير الوالد حمد آل ثاني خلال زيارته لقطاع غزة في أعقاب العدوان الصهيوني على القطاع عام 2008-2009، أصبح في السنوات الأخيرة أحد أبرز المعالم الجمالية في قطاع غزة.

وعلى جانبيه تشكلت خلال الأعوام الأخيرة حالة اقتصادية نشطة، من خلال افتتاح عدد كبير من المشاريع السياحية والزراعية، كلها اليوم أصبحت أثراً بعد عين، ليس هذا فحسب بل إنك خلال سيرك فيه لا تستطيع تحديد المكان الذي وصلت إليه، فكل المعالم اندثرت وتغيرت، وأصبحت طريقا موحشا لا دليل فيه.

ووفق اتفاقية وقف إطلاق النار المبرمة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الصهيوني بوساطة مصرية قطرية وضمانات أمريكية، فإن طريق الساحل المعروف بـ”شارع الرشيد”، مخصص للمشاة ذهاباً وإياباً ويمنع من خلاله مرور المركبات، غير أن الفلسطينيين بدؤوا بالتنقل فيه عبر العربات التي تجرها حيوانات أو ما يعرف محلياً بغزة باسم “التكتك”.

الرحلة التي تمتد من “تبة النويري” إلى “مفترق النابلسي” عبر هذه الوسائل، تعد رحلة عذاب، ليس لطول الطريق، بل لوعورته الشديدة، فقد تعمد الاحتلال الصهيوني الذي مكث في هذا الشارع طوال فترة الحرب، إلى تخريب الشارع وتحويله إلى ما يشبه الطرق الجبلية الوعرة، عبر تخريب الاسفلت والرصيف وإنهاء ملامحمها واستبدال أجزاء كبيرة منه إلى أخرى مكسوة بالطين والكثبان الرملية والحجارة.

عذاب جسدي ونفسي

الحاج الخمسيني “أبو علي”، والذي جمعته رحلة عبر “التكتك” مع مراسل “المركز الفلسطيني للإعلام” إلى مدينة غزة، كان قد وجد لنفسه عملاً في مدينة دير البلح التي كان نازحاً فيها طوال فترة الحرب، لكنه من سكان مدينة غزة، وعاد إليها كما يقول مشياً على الأقدام في اليوم الأول لفتح الطريق الساحلي.

وسكن “أبو علي” فيما تبقى من منزله الذي دمر الاحتلال أجزاء واسعة منه، إلا أنه مضطر لرحلة يومية ذهاباً وإيابا عبر هذا الطريق كي لا يخسر مصدر رزقه الوحيد.

“رحلة عذاب يومية، تكسر الظهر وتؤذي كل جزء من جسمي، ليس فقط لأننا نركب التكتك وهو غير مخصص لنقل الركاب وغير مهيأ لذلك، ولكن بسبب وعورة الطريق وصعوبة السير فيها، أنت تتعرض لمطبات وحفر كثيرة ومفاجئة، تجعلك كمن يسير داخل دوامة، وما إن تصل حتى تكون غير قادر على الوقوف على قدميك”، يقول أبو علي.

العذاب النفسي ليس أسهل من العذاب الجسدي، كما يقول أبو علي، فهو مضطر يومياً لسلوك الطريق ومشاهدة حجم الدمار والتخريب الهائل الذي حل بالمنطقة بأكملها، فلا منازل ولا معالم ولا مشاريع ولا حياة، فالشارع الذي كان يضج بالحياة ليلاً ونهارا أصبح خاوياً إلى من بعض المارة المجبرين على سلوكه.

يقول “أبو علي”: “كل يوم أمر بالشارع، أرى شيئا جديداً لم أره في اليوم الذي سبقه، دمار كبير حل بكل شيء، أحيانا أعتقد وأنا أقطع الشارع أن هذا المكان لم يكن في يوم من الأيام معبداً ولا مجهزا لعبور الناس، إنه صحرا مقفرة منذ بدء الخليقة، لكنني أعود وأتذكر أنه كان موجوداً وواقعاً لكن أشر الناس وأكثرهم عداء للخليقة والإنسانية مروا من هنا”.

ونحن نتحدث مع “أبو علي” رن هاتفه النقال، اتصال من زوجته “أم علي”، تسأله إين أنت إلى أين وصلت؟، تلعثم أبو علي ولم يعرف جواباً، وقال لها أنا على شارع البحر، لكن وين مش عارف، يمكن أن نكون في منتصف الطريق”.

بعد انتهاء اتصاله سألته عن فحوى اتصاله، فقال: ” كل يوم أقع في نفس الموضوع، ليس هناك معلم أعرفه في هذا الشارع بعدما أصابه، الشارع أصبح مجهولا أوله وآخره ومنتصفه بسبب ما حل به من خراب، لذلك هذا السؤال يزعجني ويؤلمني في نفس الوقت، ويذكرني بحجم المأساة التي وصلنا إليها بفعل عدوان الاحتلال.

غربة وطريق مجهول

كان معنا في “التكتك” رفيق آخر، شاب ثلاثيني، يعمل في مجال تركيب الطاقة البديلة، كنت أرى الوجوم الشديد على وجهه طوال رحلتنا، وبينما نتحدث مع “أبو علي”، قال متداخلاً: ” هذا الشارع أعرفه شبرا بشبر، كانت هوايتي قبل الحرب خاصة في أشهر الربيع، العودة من عملي وسط مدينة غزة، إلى بيتنا وسط مخيم النصيرات مشياً على الأقدام”.

يؤكد “أبو عمر”، كما عرف نفسه، أنه لم يكن يشعر بطول الطريق التي كانت تصل إلى 18 كيلو مترا تقريباً، من جمال شارع الرشيد وبهاء طريقه، وجمال جوانبه، من مزارع ومشاريع سياحية وتجارية كثيرة.

“أبو عمر” يعيش اليوم غربة في شارع الرشيد، ويرى أنه ليس هو، وأنه مكان آخر غير الذي عرفه خلال السنوات التي سبقت الحرب الإجرامية على قطاع غزة، فهو أيضاً لا يستطيع معرفة المكان الذي وصله في الشارع، ولا يمكنه معرفة موقع أي معلم من معالمه إلا نادراً.

ما يتطرق إليه تقريرنا ليس إلا حالة من الحالات التي هي عليه غالبية المناطق في قطاع غزة، التي داستها الدبابات الصهيونية وطالتها نيران صواريخ الحقد التي قذفتها دبابات وبوارج وطائرات الاحتلال، والتي أحالتها إلى خرائب لا تصلح للعيش الآدمي.

ومع هذا تجد أن الفلسطيني ورغم الألم الكبير الذي يعيشه إلا أنه يصر بشكل منقطع النظير على صناعة الحياة، رغم صعوبة ذلك، ويعمل ليل نهار محاولا تذليل السبل من أجل البقاء في أرضه والتشبت بها، وإفشال كل مخططات التهجير والاقتلاع التي يحلم به الاحتلال الصهيوني وأعوانه.

مقالات ذات صلة

شارك المقال:

الأكثر قراءة

محليات