سامح المحاريق
تساءلت واحدة من الشابات الواعدات التي تشغل عضوية المكتب السياسي في أحد الأحزاب الأردنية إذا ما كانت الجغرافيا السياسية الأردنية تسمح بوجود ديمقراطية أردنية حقيقية؟ ولا أعلم إن كان البعض ما زال يتساءل بعد مرحلتين من التعديلات الدستورية تعاملتا تحديداً مع هذه القضية حول دور الإقليم وتفاعلاته في التأثير على مسيرة الإصلاح السياسي.
التعديل الدستوري الأول، كان يتعلق بصلاحية الملك في تعيين قيادة الجيش والأجهزة الأمنية، بما يعني أن أي حكومة منتخبة ولو جاءت في ظل أية ظروف لا تستطيع أن تتخذ قرارات من شأنها أن تهدد الأمن الإقليمي في الأردن، وتورط الدولة في صراعات أيديولوجية أو سياسية تتعلق بطيف سياسي معين.
بمعنى أن مشهداً مثل تجمع السلفيين قبل فترة وجيزة من نهاية حكم الرئيس مرسي للتضامن مع الثورة السورية، والتصعيد ضد دمشق لا يمكن أن يحمل أي تأثير في حالة الأردن، لأنه ببساطة لا يعني أن الحكومة المنتخبة ستكون قادرة على الدفع بالدولة بأكملها في صراع لمصلحتها الأيديولوجية الخاصة.
أتى تعديل دستوري آخر أسس لفكرة مجلس الأمن القومي في الأردن، وهو ما يحول دون قيام حكومة معينة باتخاذ اجراءات من شأنها أن تحمل تكلفة مفرطة على الدولة الأردنية لتحقيق مصالح انتخابية ضيقة.
ومع هذه التعديلات فالمطلوب حكومة تتمكن من إدارة الشأن العام في المملكة، والحصول على الزخم الكافي من أجل تبني أولويات وطنية تستطيع أن تخدم الأهداف الوطنية العامة، وهذه الأولويات أصلاً كثيرة.
المشكلة في الإقليم تمثلت في أن الدول المختلفة تزعم لنفسها واجباً عابراً للحدود، ورسالة فوق الدولة، ومع أن الدولة يمكن أن تحمل رسالةً تتمثل في مبادئ أخلاقية ووطنية، إلا أن ذلك لا يعني مطلقاً أن تتغول هذه الرسالة على الدولة، وتصبح المبرر الجاهز أمام أي تقصير، فالرسالة تتطلب كذا وكذا، ولأن الرسالة شعار متاح ودائم الحضور، والبرامج والمشاريع في المقابل، معقدة ومليئة في التفاصيل، فالاحتكام للرسالة هو الخيار السهل.
رسالة الدولة الأردنية ثقيلة من الأساس، فالأردنيون عروبيون متحمسون، والأردن دولة مواجهة خاضت أكثر من حرب لهذا السبب، وإذا كانت الحكومة التونسية مثلاً، تمتلك رفاهية التراشق والمناكفة، كما حدث في مرحلة الرئيس الحبيب بو رقيبة، فالأردن لا يمتلك هذه الهوامش للمناورة، ولنتذكر سويةً أن بعض الأخطاء التكتيكية التي شهدتها الأيام الأخيرة من أيار 1967 كانت المدخل لحرب حزيران والنتائج الكارثية التي أنتجتها.
توجد دولة تؤدي أدوارها، والمطلوب هو الارتقاء بهذه الأدوار، فتوفر السلع الأساسية على أرفف المجمعات التجارية هو أحد تجليات الدولة، وتوجد أطراف كثيرة تعمل بصورة متواصلة من أجل أن تتناول عبوة الزيت أو السكر من الرف، وزارة الصناعة والتجارة والبلديات ومؤسسة الغذاء والدواء، ووراءهم وزارة المالية ومحافظ البنك المركزي، ومعهم وزارة الأشغال والعمل، كل ذلك، من أجل أن يقف المواطن ويتحصل على مادة غذائية أساسية.
المطلوب هو تحسين هذه العملية بوصفها نموذجاً نطرحه لمئات العمليات المشابهة التي تبرر وجود الدولة في المرتبة الأولى، وربما إعادة ترتيب الأولويات، فالفئات الاجتماعية المختلفة وبشكل عابر للمناطقية، تحتاج إلى تمثيل وطني شامل يرفع من كفاءة أداء الإدارة العامة، ويجدول أولويات التنمية بصورة أفضل.
هل يمثل حديث البعض عن الجغرافية السياسية تملصاً مبكراً من هذه المسؤوليات؟
المتابعة المبدأية للأنشطة الحزبية تدلل على أن هذه الأمور بعيدة، فالتشكيل الاجتماعي – السياسي للفعل الحزبي يقدم في بعض الاحيان الأحزاب بوصفها منتديات لبعض رجال الدولة القدامى الطامحين لتحقيق الاستمرار وفقاً لشروط مرحلة جديدة، وهو ما يظهر الحزب في بعض الاحيان وكأنه يقتصر على الأمين العام، وبعض الشخصيات المقربة التي تقوم بأداء واجبات اجتماعية قبل الفعل السياسي في كثير من الأحيان، وهذه بداية غير مشجعة، فهل هذه هي الطاقات السياسية للأردن؟ هل هذه الثقافة العامة وكل إناء بما فيه ينضح؟
المثير للتخوف هو تجربة النقابات التي استغرقت في الجانب السياسي وكانت الهامش المتاح لممارسة التمثيل، وفي النهاية خلفت وراءها صناديق تقاعد واستثمار في حالة مزرية، فهل سنسمع الكثير من الحديث في السياسة ونرى القليل من الإدارة العامة في حال سحبنا نفس التجربة على الواقع الحزبي الراهن؟
أسعدتني الفرصة في الأشهر الأخيرة بالتواصل مع عشرات الشباب من مختلف المحافظات، واستمعت لحديث يتخالط فيه الوعي مع الأمل متوازيان مع الحماس الذاتي والإحباط الموضوعي، وكان الحديث حول المحصلة العامة للإصلاح السياسي على أوضاعهم الخاصة والظروف المعيشية التي تحاوطهم، وهذه مهمة صعبة في حد ذاتها، تحتاج إلى نماذج عمل مختلفة، وفي حالة الانكباب على هذه المهمة بصورة جدية تتجنب الانسياق وراء المطالبية وتبديد التجربة من أجل تحقيق الشعبية، فإنها ستعمل بصورة منفصلة عن الجغرافيا السياسية التي ستبقى شأناً أبعد من إداري وأوسع من تنظيمي.
التذرع بالجغرافيا السياسية في ظل أوضاع ساخنة في الجوار مفهوم إلى حد ما، ولكنه لا يجوز أن يشكل تخوفاً، فالظروف الإقليمية لم تكن يوماً مواتية، ويبدو أنها لن تكون في المدى المرتقب، فهل ننتظر إلى أن نفقد القدرة على استثمار الفرص بصورة كاملة.
الأردن ليس مهدد وجودياً، لنعترف بذلك، وتوجد لدينا تجربة طويلة من التعامل مع التحديات الإقليمية والدولية، ولكن تراكم الفرص الضائعة هو ما يشكل التهديد الأساسي في هذه المرحلة، وفرصة التحديث السياسي لا يجب أن تنضم إلى أرشيف الفرص الضائعة تحت أي مبرر ونتيجة لأي ظرف.