سامح المحاريق
عودة التظاهرات إلى منطقة الرابية مسألة ايجابية ومنطقية وصحية، وما لم يكن كذلك، هو تراجع الفعاليات الشعبية في الأسابيع التي سبقت شهر رمضان، وكانت الدولة نفسها تتساءل من خلال أجهزة رصدها ومتابعتها عن سبب التراجع والسلبية، ويبدو أن السبب كان يعود إلى ثلاثة عوامل رئيسية، الأول، هو شيوع فعالية المقاطعة للمنتجات الأمريكية وبعض الشركات التي دارت الأحاديث حول دعمها لدولة الإحتلال، والثاني، وجود عالم افتراضي يشهد اشتباكاً ساخناً ويؤدي إلى تغيرات جذرية في مواقف تراوحت بين السلبية والحيادية للعديد من البلدان لتصبح مع كثافة الحراك الافتراضي تتخذ مواقف ايجابية تجاه الفلسطينيين، وبلجيكا، مثال واضح.
السبب الثالث، وهو الأهم، وجود قناعة لدى قطاعات واسعة من الأردنيين أن الدولة الأردنية تتخذ مواقف متسقة مع الموقف الشعبي، فالأردن رفض أن ينظر إلى ما حدث في السابع من أكتوبر الماضي بوصفه حدثاً منفصلاً عن سياقات تاريخية تتمثل في تواصل الاعتداءات الإسرائيلية، وكان أول دولة بدأت الإنزالات الجوية، وكثير من الدول ساهمت في ذلك من خلال الأردن في مرحلة لاحقة ومتأخرة نسبياً، والأهم من ذلك كله، موقف الأردن في مساندة الفلسطينيين في الضفة الغربية.
خروج الأردنيين أتى نتيجة الإحباط نتيجة التوقعات العالية التي ذهبت إلى أن الهدنة المرتقبة ستدخل حيز التنفيذ في رمضان، وحتى الساعات الأخيرة قبل دخول الشهر الكريم كانت المفاوضات بين حركة حماس والجانب (الإسرائيلي) قريبة من الوصول إلى تفاهم حول هدنة تمتد لأسابيع، ولكن يبدو أن المشكلة في (إسرائيل) أعمق من الخروج بأي حلول، فالتهدئة ربما تقلب (إسرائيل) رأساً على عقب، ومع مضي الأسبوع الأول من شهر رمضان، وعلى الرغم من سعي (إسرائيل) إلى التهدئة في القدس التي وضعت تحت إضاءة كثيفة، إلا أن شعوراً بضرورة التحرك أخذت تتوسع في الشارع الأردني، وفي دول عربية أخرى.
الذين توجهوا إلى الرابية مواطنون أردنيون مخلصون لوطنهم يتصرفون بما يمليه ضميرهم القومي، ولكن أي حالة حراك شعبي تصبح بالضرورة فرصة للقوى السياسية المتأهبة لركوب الموجة، وللسيطرة على الميكروفونات والهتافات، فالطبيعي أن المواطن الذي يتحرك من بيته ويتوجه إلى الرابية من أجل التعبير عن نبض الأردنيين الجمعي لا يأخذ معه ميكروفوناً ولا يمضي وقته في كتابة الهتافات، هو يتصرف بالعفوية التي لا يمكن التشكيك في نواياها أو التعريض بأهدافها، هو متسق مع نفسه ومع ثقافته وخلفيته وقناعاته التي تشكلت معظمها في مناهج دراسية أردنية وضمن خطاب الدولة الأردنية التاريخي، الدولة بالمفهوم الذي يتجاوز الحكومة وأي جهة فئوية مهما بلغت قوتها وقدرتها على التنظيم.
هل يمكن اختزال ما حدث في السابع من اكتوبر بصراع بين حركة حماس، بمعزل عن الشعب الفلسطيني، وبين الاحتلال؟ أعتقد أن الإجابة المنصفة هي النفي.
توجد أطراف داخل حماس تحاول التأثير على قرار الحركة بعلاقات وحسابات خارجية، وتوجد أطراف كثيرة تحاول القفز على الحركة، والحقيقة أن التفاصيل التي تجري داخل القطاع تجعل القوام الفاعل في الحركة بعيداً عن هذه التجاذبات التي تجد للأسف عنوانها في المكان والوقت الخاطئين. والأصل أن ما يحدث في غزة جريمة ضد الإنسانية، ندعو لمواجهتها جميع الأردنيين لأن يخرجوا إلى الشوارع، ولكن من أجل أن يقدموا صوتاً موحداً يركز على القضية الأساسية ويطالب بإنهاء المأساة المتواصلة في قطاع غزة وضمن المحافظة على وحدة الصف الأردني والوقوف وراء الدولة الأردنية التي أخذت كثير من القوى تحاول أن تستهدفها بصورة مباشرة وغير مباشرة، وكأنها لن تحصل على صك براءتها إلا بجر الأردن إلى الخانات المعقدة التي تعيشها بكل ما تحملها من تراكمات وحسابات متداخلة.
الرابية ليست كافية، نحتاج إلى رابية أخرى في كل قرية ومدينة في الأردن، ولكنها رابية واعية ومتسقة مع ذاتها، ومع المواطن الأردني الذي يخرج من بيته ليعبر عن رأيه من غير أن يكتب في أجندة خاصة أهدافاً وغايات أخرى ربما تكون مقعداً نيابياً أو نقابياً أو مائة علامة إعجاب على صفحته في الفيسبوك أو التويتر.
هذا ما نحتاجه، حراك واسع من أجل فلسطين يليق بالأردن وأهله، لا حراك أناني وضيق الأفق والمصالح يبحث عن فرصة للتسلق على حالة مقاومة تواجه حرباً شرسة، واختطاف المشهد من شعب عربي نبيل يدافع عن أرضه ووجوده.