سامح المحاريق
لدولة الكويت تجربة ديمقراطية عريقة على المستوى العربي، إلا أنها ليست التجربة المثالية، وربما كان لهذه الديمقراطية دورها في بناء ريادة الكويت في مرحلة، وتراجع ريادتها في مراحل أخرى، فالكويت التي كانت قطعت أشواطًا طويلةً قياسًا ببقية دول الخليج العربي، على مستوى البنية التحتية والخدمات الحكومية والفاعلية الثقافية والفكرية، وجدت نفسها بعيدة عن المنافسة على مستوى الحضور والمشاريع الكبرى والتحديث.
تحصلت دول الخليج الأخرى، الإمارات بدايةً، وقطر والبحرين والسعودية، في مرحلة لاحقة، ومؤخرًا سلطنة عمان التي بدأت تطلق العديد من المشاريع التنموية الطموحة، على بنى سياسية منحتها المرونة الكافية في بناء الأولويات، وصحيح أن الوفرة المادية أسهمت في ذلك، إلا أن الوفرة كانت شرطًا قائمًا في الكويت بصورة مستمرة، وبقيت مسألة التنازع داخل الديمقراطية الكويتية حول التصورات التي تخدم شكل الدولة في المدى القصير والبعيد، واسترضاء الناخبين الذين يسعون للمحافظة على علاقتهم القائمة مع الدولة، وهي علاقة متميزة، ولكنها غير مستدامة بالمعنى الاقتصادي.
الديمقراطيات العربية عانت من إشكالية عدم تناسبها مع الهياكل الاجتماعية، فالديمقراطية نتيجة لمجتمع فرداني ومديني، بمعنى ممارسات العيش ورؤية العالم، وعند تطبيقها يستلزم ذلك تغيرات واسعة في مجال الوعي السائد، وإلا أصبحت الديمقراطية تمثل الوكالة القائمة لتوزيع المكاسب وإدارة المحاصصة السياسية والاقتصادية، ولبنان المتواضع الإمكانيات المادية، أصبح ضحيةً مبكرةً لشكل الديمقراطية التي تعتيلها الأطياف الاجتماعية بجميع مشكلاتها، وبما يجعل الديمقراطية اللبنانية مختبرًا لفهم الخلل في الديمقراطيات التمثيلية العربية.
في لبنان تحايلت الديمقراطية على فكرة عمل الأحزاب بوصفها (فلتر) إضافي في المجتمعات العربية لتحييد بعض من دور البنى الاجتماعية الأخرى، مثل القبيلة أو الطائفة، وحولت الأحزاب إلى شكل تمثيلي للطوائف أو غطاء لبعض رجال الدولة أو المال الذين لن يتورعوا عن استدعاء أي غطاء قبلي أو طائفي عندي الحاجة.
ثم إلى حد كبير تبقى مسألة إدارة المؤسسات وعلاقتها مع البنى الديمقراطية نفسها، واقعها الفعلي القائم على عوامل تاريخية ومادية قابلة للقياس، مقابل التطلعات الشعبية السياسية لما يفترض أن يكون ويقع كليةً داخل عالم مثالي منفصل عن الواقع، وهذه مسؤولية الدولة وخطابها المتراكم، وافتراض أن للدولة رسالة تاريخية يمكن من أجلها تعطيل أو تأجيل بعض الواجبات والاستحقاقات، ومن هذا الخطاب يتضافر نسيج المثالية المجاني الذي يحكم العقول، ويجعل الممثلين منفصلين عن قضايا ملحة وغير ممكنة التأجيل من أجل قضايا مفترضة وبعيدة المدى. بل وهي قضايا يفترض أن تكون نتيجة للتنمية المحلية بالدرجة الأولى.
هل يعني ذلك أن نكفر بالديمقراطية، وأن ندعي أنها غير مناسبة لظروفنا؟
الديمقراطية ليست كاملة ولا مثالية، ولكنها الأفضل بين الخيارات المتاحة، وتحتاج متطلبات أساسية، من أهمها الشفافية وتوافر المعلومات لأن ذلك ما يؤسس للمقاربة الواقعية في التعامل وبناء الأولويات المناسبة، ومع الشفافية، حضور الدستور وسيادة القانون بوصفهما إطارًا عامًا مرجعيًا يجعل من التداول فكرة قائمةً وممكنة، لأن ذلك يشكل المسار الذي تمضي عليه الدولة، ويتطلب ذلك تفعيلًا للممكنات الكاملة في الدولة ومن أهمها وظائف بناء الوعي من تربية وتعليم إلى إعلام.
من غير هذه الممكنات تبقى الديمقراطية عرضةً لكثير من الاضطرابات، وربما تصبح أداة تعطيل أكثر من رافعة تمكين.