م. سعيد المصري *
المتابع لما يجري في العالم من تحورات وتشكل لقوى جيوسياسية تتناقض مع مصالح الولايات المتحده وتهدد استدامة الهيمنة الليبرالية للغرب على معظم دول العالم في القارات الخمس والتي تشكلت منذ الحرب العالمية الثانية وزادت سطوتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وأفول نجم الشيوعية كأيدولوجية لبناء الدول على اساسها ، وكان واضحا بعد ذلك تشكل القطب الاحادي المهيمن لتقوده الولايات المتحدة الأمريكية وتحالف من دول غربية في اوروبا وآسيا .
ومنذ رسوخ اقدام هذا القطب الاحادي الاميركي الغربي منذ ربع قرن مضى بدأت الولايات المتحدة تبسط نفوذها بشكل مؤثر على الكثير من دول العالم وفي معظمها من دول العالم الثالث في القارات الرئيسية الاربع وقد حققت نجاحا من خلال مبدأ العصا والجزرة لاستدامة تبعية تلك الدول لتكون تحت العباءة الاميركية وباقي الدول الغربية المتحالفة معها .
ويتضح بعد مرور اكثر من ربع قرن على العلاقة الأمريكية المهيمنة مع باقي دول العالم انها سببت تبرما من قبل قيادات معظم دول التبعية كون العلاقة تحكمها المصالح الأمريكية كأولوية اولى والتي كان من تبعاتها اغراق معظم دول العالم الثالث في الديون السيادية .
اما الدول النفطية فقد تم اخضاع تلك الدول النفطية لاتفاقيات البيع بالعملة الأمريكية ( البترودولار ) حصرا على ان توجه معظم ايرادات تلك الدول النفطية المالية ليتم ضخها في الاقتصاد الغربي في استثمارات سندات الخزينة الأمريكية او ايداعها في البنوك الأمريكية والغربية الرئيسية ، وما من شك ان تلك السياسة غير المنصفة لدول العالم الثالث والتي سلبت استقلال القرار السيادي اضافة إلى مواقف مبالغ فيها في الدعم الاميركي والغربي غير المشروط لاسرائيل فيما يتعلق بانكار حق تقرير مصير الشعب الفلسطيني على ارضه قد اثار كل ذلك حفيظة جيل الشباب الجديد في دول العالم الثالث الذين كان لهم نصيب في نيل التعليم النوعي في مختلف المساقات الأكاديمية وعمقت لدى هذه الاجيال احساسا بعدم العدالة في التعامل مع دولهم حيث انتقلت مشاعر العداء للولايات المتحدة ابتداء من رجل الشارع العربي إلى الطبقات كافة حتى اضحت توافقا وطنيا . فيما اثارت الحرب الظالمة على غزة وبمشاركة غربية علنية حنقا شعبيا عالميا واحساسا بالظلم الذي عمق قلق دولا كثيرة بخطر انتقال الظلم لدول العالم الاخرى.
وبنظرة فاحصة لواقع دول العالم اليوم الذي اصبح يبحث عن نظام عالمي اكثر عدلا وإنصافا ، يتضح ان هناك املا جديدا في الخلاص من سلبيات هيمنة القطب الواحد بعد ظهور محاولات جادة وعقلانية من قبل دول مثل الصين وروسيا والبرازيل وجنوب افريقيا والهند في تشكيل قطب اقتصادي جديد بما عرف بدول البريكس ، والذي جاء كرد فعل مقاوم لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية بفرض العقوبات على الدول التي ترفض ازدواجية المعايير فيما يعتبره الغرب قواعدا لحقوق الإنسان او حتى الدفاع عن مصالح لتلك الدول والتدخل في شؤونها الداخلية بهدف فرض التغيير داخل تلك الدول ، وهو امر يناقض ما تنادي به الولايات المتحدة من قيم العدالة والديمقراطية.
وقد اعتبرت دول البريكس ان المبالغة الامريكية في استخدام العقوبات كسلاح من خلال وقف أنظمة التحويلات المالية عن الدول او حتى عن الأفراد والايعاز لكافة البنوك الدولية لاخضاع الدول والأفراد لنظام التعقب للحد من التحويلات المالية التي تعتبرها الادارة الأمريكية من ادوات العقوبات لإجبار الدول للتراجع عن مواقفها التي تتناقض ومصالح الادارة الأمريكية .
ان رد فعل دول البريكس كان يركز على الدول التي طالتها العقوبات الأمريكية والتي ألحقت ضررا كبيرا في التجارة العالمية بعد عزل دولا تمثل جزأ مهما من خطوط التجارة الدولية مثل ايران وكوريا الشمالية والصين وروسيا والحوثيون في اليمن وسوريا وغيرها من دول وأفراد ، ومن سخريات القدر ان تلك العقوبات ارتدت سلبا على الاقتصاد الاميريكي نفسه حيث أدت تلك العقوبات إلى رفع كلف شبكات التزويد والنقل البحري ورفعت كلف التامين على البضائع مما رفع اسعار السلع والخدمات في الولايات المتحدة وكندا بشكل غير مسبوق.
امام هذه الفوضى السياسية العالمية التي سببتها هيمنة القطب الغربي الاحادي فقد اصبح العالم اسير ازمات اقتصادية ممتدة واصبح الخطر يطال سيادة الدول ومنظومتها الاقتصادية والاجتماعية.
وبالنسبة لدول البريكس فقد كان وما زال امن التزود بالطاقة هو العنصر الهام كمدخل لتطور الصناعات وسبل الحياة لتلك الدول ، وكان التحدي الأكبر لدول البريكس هو قيام الولايات المتحدة بتوظيف عملة البترودولار كسلاح لمحاربة دولا مثل الصين وروسيا على اعتبار ان عملة الدولار هي الوحيدة الكفيلة بتزويد الدول المختلفة باحتياجاتها من الطاقة من مشتقات البترول والغاز ومواد اخرى من البتروكيماويات وامتد ذلك إلى معظم المواد الخام من معادن ارضية نفيسة تدخل في صناعة التقنيات العالية .
وبالرغم ان عملة البترودولار كانت وستبقى عملة رئيسية في التجارة العالمية ولن تختفي في المستقبل المنظور ، إلا ان صعود قطبا اقتصاديا مركبا ثانيا إلى ساحة التجارة العالمية كفيل بان يقسم الأسواق العالمية بين القطبين الغربي ومجموعة البريكس ، والواضح ايضا ان ما تطرحه دول البريكس كوسيلة لممارسة التبادل السلعي والخدمي في مناطق اسواقها ونفوذها ستخضع لسلة من العملات تشكل في مجموعها كافة الدول الاعضاء وهذا ما حفز الكثير من دول العالم في القارات المختلفة إلى تقديم طلبات لانضمام إلى المجموعة ( اعتقد ان هناك خمسون طلبا حتى الان ) ، فإذا ما بحثنا عن هوية الدول الراغبة في الانضمام لمجموعة البريكس نجد ان من ضمنها دولا نفطية عربية وهذه الدول هي :-
الإمارات ومصر والجزائر والأرجنتين والبحرين وبنغلاديش وبيلاروسيا وبوليفيا وكوبا وإثيوبيا وهندوراس وإندونيسيا وإيران وكازاخستان والكويت والمغرب ونيجيريا وفلسطين والسعودية والسنغال وتايلاند وفنزويلا وفيتنام.
ومن القائمة يتضح ان الدول الغنية والفقيرة ترغب بالانضمام إلى مجموعة البريكس مما يؤشر لولوج قطب اقتصادي جديد من المتوقع تقاسم الأسواق العالمية مع القطب الأوحد وهو الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين .
وقد يتبادر لأذهاننا ان الاميركيون سيقاومون القطب المنافس الجديد للحفاظ على الهيمنة الغربية الليبرالية من خلال تسيد العملة الأمريكية كعملة وحيدة قابلة للتحويل برغم وجود مثل هذا الاحتمال في المواجهة على شكل حروب الوكالة او اثارة قلاقل داخل الدول ، ومع ذلك فالإجابة على هذا التساؤل سنلقي نظرة على الواقع الاقتصادي للقطب الغربي وهو الولايات المتحدة الأمريكية اولا ، فقد بلغ معدّل الناتج المحلي الاجمالي للولايات المتحدة الأمريكية في الربع الاول من العام ٢٠٢٤ إلى ٢٨،٧٨ ترليون دولار ، في حين بلغت قيمة الدين السيادي لها ٣٤،٦٨ ترليون دولار ، اي ان نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي تبلغ ١٢٠٪ حاليا ( دون اخذ ديون الضمان الاجتماعي الاميركي في الحسبان) ، أضف إلى ذلك ان معدل نسب النمو السنوي للاقتصاد الاميركي لا يتجاوز ١،٣٪ حسب الإحصاءات الربعية للعام ٢٠٢٤ ، وبدأ الاقتصاد الاميركي يتحول شيئا فشيئا إلى الحماية الجمركية ( او الحماية الاغلاقية على الدول في حالة فرض العقوبات الاقتصادية) بهدف توفير الحماية للمنتجات المحلية في الولايات المتحدة ، وقد ساهمت هذه السياسة في ارتفاع كبير في اسعار السلع والخدمات داخل الولايات المتحدة وسبب إرباكا في قدرة المنتج الامريكي على المنافسة العالمية في اسواق الصادرات سيما وان الكثير من الدول تعاملت بالمثل مع الولايات المتحدة من خلال فرض رسوم جمركية على وارداتها من الولايات المتحدة!
في نفس الوقت فقد استنزفت الحرب الاوكرانية الاقتصاد الاوروبي اضافة إلى فرض العقوبات الأمريكية على مناطق قريبة من القارة الأوروبية مثل ايران وغيرها والتي رفعت من كلف شبكات التزويد والنقل واصبحت القارة الاوروبية تظهر عليها معالم الشيخوخة امام عدم قدرة الولايات المتحدة التدخل الفعال لإنقاذ الاقتصاد الاوروبي والدليل على ذلك الضعف في الاداء الاوروبي بنسب النمو الاقتصادي الاوروبي التي تدور حول الصفر المئوي سلبا ام ايجابا .
وفي المقابل استطاع الاقتصاد الروسي ان ينجو من العقوبات الغربية نتيجة حربه على أوكرانيا حيث تمكن الاقتصاد ومن خلال البنك المركزي الروسي من التخلص النهائي من نقص السيولة من العملة الأمريكية لتامين تمويل مشتريات الفدرالية الروسية من الخارج بفعل العلاقات المميزة مع الصين التي شكلت غطاء للجانب الروسي من خلال قبول التعامل بالروبل في مشتريات روسيا من الصين وكذلك الحال للهند التي تقوم بعمليات تجارية مع الروس باستخدام عملتي البلدين المحليتين ( الروبل والروبية)
اما الصين فقد تجاوزت مرحلة ما بعد الكورونا بنجاح ودخلت في نمو اقتصادي يتجاوز ٥٪ بفعل المحافظة على تنافسية المنتج الصيني المخدوم بمراكز البحث والتطوير ومكن المنتجات الصينية المتطورة من غزو كافة أسواق العالم في القارات الخمس .
ان أداء دول البريكس الاقتصادي لا زال نسبيا افضل من أداء الاقتصاد الأمريكي (بالرغم من فارق ارقام الناتج المحلي الاجمالي المتفوق للولايات المتحدة).
ما اود قوله ان التعامل اللاأخلاقي والمستغل من قبل الولايات المتحدة للكثير من دول العالم الثالث خلق استياء عاما ، فالإمارات العربية المتحدة لم تعد مقتنعة بطريقة ادارة اسعار النفط العالمية الذي تديره أوبك وهيمنة أمريكية كاملة لم ترضي اعضاء كثر في هذه المنظمة وهدّدت دولة الامارات بالانسحاب من منظمة أوبك كون العمليات تتم بتأثير أميريكي قد ومصالح الدول المنتجة .
ومن ناحية اخرى فقد استجابت الحكومة السعودية لمساعي صينية للتوفيق بين المملكة العربية السعودية وجارتها الشرقية ايران وتم اعادة العلاقات بحدها الادنى وضمان حسن الجوار بينهما ، وكان من نتائج التقارب السعودي الصيني والروسي عقد صفقات بيع النفط السعودي بعملات البلدين ( الروبل واليوان) مما يؤشر لنجاح هذه التجارب في الوصول لصفقات افضل من ربطها بالبترودولار !
وواضح ان المملكة العربية السعودية لن تجدد اتفاقية ربط النفط السعودي بالدولار في خطوة لاستقلال القرار السياسي السعودي لتبعية استمرت عقودا طويلة .
ان التطورات المتتابعة آنفة الذكر تؤشر إلى سرعة تشكل قطب اقتصادي ثان يمتاز هذا التكتل الاقتصادي بالمرونة في شروط الانضمام اليه (حتى الان) ويعتمد سلة عملات اعضائه في التعاملات التجارية الدولية ضمن حيز أسواقه ، ويتوجب ان لا نغفل ان هناك ثلاث قوى اقتصادية كبرى ستهيمن على هذا التكتل الجديد ، واولهم الصين بمشروعها اللوجستي العملاق بما أطلق عليه من اسم ( مبادرة الحزام والطريق ) وكذلك الهند التي تنوي هي الأخرى السير قدما في خط لوجستي آخر يستخدم موانيء خليجية مرورا بالمملكة العربية السعودية والأردن الى شواطئ البحر الابيض المتوسط مستخدما موانيء اسرائيلية ثم إلى القارة الاوروبية ، وأخيرا الفدرالية الروسية بما تمتلك من تقنيات عسكرية ومدنية ومخزونا وافرا لكافة الموارد الطبيعية النادرة التي تحتاجها دول العالم كافة في إنتاج التقنيات الحديثة .
ان اكتمال صورة هذا التكتل الاقتصادي الضخم سيكون ندا قويا للتكتل المهيمن حاليا بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ولا ننسى سهولة تشكيل تحالفات عسكرية في التكتل الاقتصادي الجديد لحماية مصالح دوله اسوة في حالة التكتل الاقتصادي الغربي الذي يحميه حلف الناتو .
يبقى علينا التأكيد ان هدف الدول التي ستشكل طرفا في تكتلين رئيسين لادارة اقتصاد العالم سيتيح لكثير من هذه الدول ( ودول الخليج العربي اولها) فرصة تنويع مصادر دخلها بعيدا عن اعتمادها فقط على الايرادات النفطية من اجل استدامة اقتصاداتها سيما وان العالم مقبل على ثورة جديدة في تقنيات الطاقة النظيفة المتجددة وبالتالي فإن أية توجهات جديدة للانتقال التدريجي للطاقة المتجددة النظيفة سيحمي اقتصاد الدول في فترة تحول اقتصادها من أحادية مصدر الإيرادات إلى الاقتصاد المتعدد والمتنوع ، وهذا واضح من مبادرة رؤية السعودية ٢٠٣٠!
وهناك مبادرات اخرى مشابهة لكافة دول الخليج تنفذ بنجاح كي تتمكن هذه الدول من الاندماج في اقتصاد السوق متعدد الأقطاب خلال العقود المقبلة .
ان الشكل المستقبلي للامم يوحي بعالم اكثر عدالة للدول واقتصاداتها المختلفة الحجوم حيث لديها خيارات اوسع من ذي قبل للانخراط في أنظمة التجارة العالمية لقوى الهيمنة المتعددة بدلا من الاحادية ، وعليه فقرار الاندماج في منظومات اقتصادية قادمة يتوجب ان يبدأ التخطيط لها من اليوم ، فهناك العديد من التوجهات الاقتصادية التي تبتعد شيئا فشيئا عن نظام العولمة الذي بدأ يأفل نجمه وستبدأ قواعد اللعبة الاقتصادية الجديدة في التشكل خلال العقد القادم . ولا استبعد ان يكون هناك تعاونا بين القطبين الاقتصاديين في قادم السنين للتغلب على تحديات القرن الذي يواجه البشرية والذي يتطلب تعاونا عالميا ، فهناك التغييرات المناخية، وهناك انعدام العدالة بين دول العالم وهناك عدم الاستقرار الجيوسياسي وهي تحديات يتطلب التعامل معها بفعالية تعدد الأقطاب وليس بفعل القطب الواحد! حيث ثبت ان العدالة تتحقق من خلال توازن القوى على هذا الكوكب.
وفيما يتعلق بمنطقتنا وبالتحديد الأردن فإنني ارى لزاما علينا التفكير بالاندماج الاقتصادي لدول الاقليم كافة بحيث يتم خلق أسواق للسلع والخدمات في هذا الاقليم لضمان التطور الاقتصادي المتكافئ لدوله ( من المهم ان يتم دمج الاقتصاد الفلسطيني في هذا التكتل الاقليمي المفترض ) كي يتحقق السلم المجتمعي والاستقرار السياسي على مستوى دوله في اجواء من الاحترام المتبادل لسيادة الدول التي تشكل هذا الاقليم ، ولا يمنع ذلك من تشكيل تحالفات عسكرية لحماية مصالح دول الاقليم ومصالحه ومكتسباته الاقتصاديه .
- وزير زراعة أسبق